مــا هـــو الإنســان؟

عبد الغني سلامة
حجم الخط

يزعم بعض العلماء أن الإنسان امتداد لتكوين بيولوجي يضرب عميقا في التاريخ، ولأن أصله من الماء تجده يغني طربا أثناء الاستحمام، ويضحك عند تناول البطيخ، حتى إغماض العين في النوم يفسرونه كاستسلام لنظام طبيعي تعودت عليه الكائنات قبل أن تخرج للنور عندما كانت في بحر الظلمات، وكذلك محاكاته للطبيعة وتقليده للحيوانات، فالإنسان مازال يحمل في جيناته مورّثات تعود لجذوره وأصله البدائي، فلا يعرف كيفية التعاطي معها وخاصة عند الغضب.. فنجد كثيراً من العاقلين يتصرفون بجنون في لحظة ما، لأنهم لم يستطيعوا الولوج لهذه المنطقة ومعالجتها كما يجب، وهنالك الكثير من الأمور لم يطورها الإنسان كما ينبغي، حتى استخدامه للعقل مازال محدود جدا قياسا بإمكاناته الهائلة.
ويتحدث علماء النفس عن منطقة معتمة غير مستكشفة في شخصية الفرد، لا يعرفها ولا يراها هو، ولا حتى الآخرون، تتجلى في لحظات معينة، فتتفجر عبقريةً، أو إجراما، أو إبداعا، أو نوعاً من الجنون.. وهذا ما يؤكد أن الإنسان كتلة من المشاعر الغامضة والمتناقضة التي يستحيل تحليلها أو اختزالها بعبارة منمقة أو بجملة شاملة.
بعض علماء الأنثروبولوجيا يعرّفون الإنسان بالحيوان الناطق، لأنه تميز عن الرئيسيات العليا بالكلام وامتلاكه اللغة، في حين يؤكد علماء الزولوجي أن للحيوانات لغتها الخاصة حتى لو كنا لا نفقهها.
ويقول السيكولوجيون أن الإنسان تميز عن سائر المخلوقات بعاطفة الحب ونظام الأسرة، حسنا، من ينفي أن الحيوانات وحتى النباتات أيضا تختبر مشاعر الحب وتعيش في قطعان تشبه في تكوينها ونظامها الأسرة، وحتى المملكة؟! الفلاسفة يزعمون بأن الإنسان يتميز فقط بالعقل والتفكير، البيولوجيون يؤكدون أن لجميع الكائنات درجات من الذكاء تفوق أحيانا ما هو متوقع.
بصرف النظر عن دقة أي من التعريفات السابقة، فإنه من المؤكد أن الإنسان يمتلك لغة راقية تتيح له التواصل والتعبير بأجمل الطرق وأعذب الكلام، وله عاطفة متقدة هذّبها على مر السنين، وعقل خارق الذكاء مكّنه من فرض سيادته على البيئة وكل مكوناتها وأوصله إلى أقاصي الكون، ولكن هل ينفي هذا سمته الكيميائية المادية؟! بوصفه مجموعة متسقة من الهرمونات والأنزيمات والدارات الكهربائية والعصبية التي تتحكم في عواطفه وانفعالاته.
وهل هذا التعريف المادي ينـزع عنه سماته الروحية والباراسيكولوجية؟ وبالتالي يقزم من قدراته الخارقة، أو يجعله محكوما لمنظومة من قوانين الطبيعة والفيزياء؟!
يقول «جوليان باغيتس»: «بالرغم أن الكون مادي بحت، إلا أن العقل والجمال والفن والأخلاق والعواطف والقيم الأخلاقية وكل الظواهر التي تعطي للحياة الإنسانية قيمتها قد انبثقت عنه».
علماء الدين والفلاسفة المثاليون لا يعترفون بكل هذه التوصيفات، ويعتبرون أن الإنسان خلقه الله بقبسٍ من روحه بصفة خاصة ومنفردة وبأجمل تكوين وأكرم هيئة، ثم فضّله على سائر المخلوقات، وقد حدّد له هدفاً أسمى لم يمنح شرفه حتى للملائكة.
على أية حال، هذا هو الإنسان الذي ما زال يواصل رحلة التقصي وفهم معنى الحياة، واكتشاف مكمن السعادة، وهما محور السؤال الذي سيظل يؤرقه للأبد.. أبسط وصف للحياة يعرّفها بأنها مجموع اللحظات والساعات التي نحياها، بغض النظر عن مضمونها وشكلها، الساعة التي تمر لا يمكن أن تتكرر، واليوم الذي ينقضي لا يُعوّض أبدا، حتى لو تشابهت الأيام وتناسلت من بعضها كنسخة مصورة. إذن، فالمعنى الحقيقي للحياة نجده في قيمة ونوعية اللحظة التي نعيشها، وما الهدف الذي نسعى لتحقيقه إلا لتحسين نوعية اللحظات التي نسفكها على عتبة هذا الهدف، فلو أخفقنا في تحقيقه يكفينا شرف المحاولة!! بمعنى آخر يكفينا أننا عشنا الحلم الوردي بدلا من ساعات اليأس والغم حتى لو كانت النتيجة واحدة.
هل هذا تحايل على الذات؟ أم أننا لا نملك ترف الخيارات؟!
كثيرا ما تغمر الإنسان لحظات من السعادة: ليلة زفافه، ولادة طفلهِ الأول، ترقيته في العمل، امتلاكه منزلا أو سيارة.. وقد يستخلصها من أبسط الأشياء وأكثرها تعقيدا.. ابتسامة من عابر طريق، أغنية لفيروز، وجبة شهية، سهرة مع الأصدقاء.. فالسعادة توجد حينما نعمل على خلقها، ولكنها قياسا بعذابات البشرية تظل قاربا في بحر من المعاناة والألم، إحساسنا بالحزن يمتد طويلا كحالة تخيلية وليس كواقع زمني حقيقي... صحيح أن عذابات الإنسان كفرد لا تشبه عذاباته بشكل جماعي، ولكن بين الحالتين علاقة حيوية لا تقبل الانفصام، فشخصية الفرد نتاج لبيئته: شخصية سائق التاكسي تختلف عن شخصية الأستاذ، حتى أن شخصية مدرس اللغة العربية تختلف عن شخصية مدرس الرياضيات، سلوك ابن المدينة يختلف عن سلوك البدوي، أطفال اليوم يختلفون عن أطفال الماضي.. ولأن الشخصية هي منطلق الأفكار والحالة النفسية وهي التي تحدد مساراتها، سنجد أعدادا لا حصر لها من الفلسفات الفردية التي يؤمن أصحابها بأنها الأفضل والأقرب للكمال.
كما تختلف طبائع البشر، تختلف حيواتهم، إلا أن جوهر الحياة واحد.. فالحياة هي ذكرياتنا التي نجت من النسيان، هي توقنا ليومٍ لم يأتِ بعد.. وخوفنا منه، هي شغفنا باللحظة الراهنة، هي نظرتنا تجاه ذاتنا وعلاقتنا بالآخرين، هي دمنا المسفوح على تراب الوطن، هي سجودنا أمام الخالق وتضرعنا إليه، هي موسيقى القلب وهو يخفق شوقاً لمن نحب، هي ما نحمله في دواخلنا من جمال ونعيد إنتاجه للعالم، هي دمعة الأم التي زفت ابنها، هي وجع البُعاد، هي ضحكات الصغار عند مدخل البيت، هي قلقنا المشروع، وأمسياتنا الحزينة، هي فرحنا الآتي بعد حين، هي أغنياتنا وشهقاتنا المكتومة، هي بيتنا وخُبزنا وقهوتنا الصباحية، هي أنت وأنا.. هي «الآن وهنا».. هي حياتنا.. وعلينا أن نحياها بكل تفاصيلها.. كما نشاء.
كلما سبرنا في أغوارنا وتعمقنا أكثر، تعقدت لنا الصورة، وبدت لنا تناقضاتنا ومثالبنا، من أصابه مسٌّ من الغرور سينجو من هذه الرحلة، ولكنه سيعود خاويا، ومن لديه الشجاعة عليه أن يجري محاكمة عادلة لكل جزء يتم اكتشافه، وأن يعترف أمام نفسه بكل ما اقترف، من مَلَكَ الحِكمة سيعترف أولاً بأنه بشر عادي، ولكنه يبحث عن سلامه الداخلي، والذي لن نجده إلا في قلوب الآخرين.. عندما نملؤها حبا وصدقا.. بعد أن نحب أنفسنا ونصدق معها.
أحيانا يكون السؤال أهم من الإجابة. فلكل واحد منا إجابته الخاصة.