ربما كنت بحاجة إلى إنعاش ذاكرتي، عندما دعيت إلى حفل تكريم رواد العمل التطوعي في فلسطين، في إحدى القاعات بمدينة غزة، إذ إن هذا "المفهوم" كاد ينزوي في ركن من أركان ذاكرتي البعيدة، كوني اعتقدت أن لا مجال للحديث عن "العمل التطوعي" إلاّ باعتباره جزءاً من تاريخ وأرشيف نشاط شعبنا الوطني، خاصة بعد قدوم السلطة إثر اتفاق أوسلو، وتراجع العمل التعاوني والتطوعي بشكل متدرج، بحكم تجليات العمل الوظيفي، وحتى بعد أن تزايدت نسب البطالة في المجتمع الفلسطيني، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، فإنني لم ألحظ أن ذلك وفر فرصة أفضل أمام الشباب والشابات الفلسطينيات للالتحاق بركب العمل التطوعي.
إلاّ أنه ومع دخولي قاعة الحفل، وقد جئت مبكراً قليلاً كالعادة، فوجئت بأعداد كبيرة من الحضور الشباب تحديداً، وبصعوبة وجدت لي مكاناً، تخلى عنه أحد الأصدقاء الذي انضم إلى الواقفين وهم كثر، ومن كلمات الرواد المتعاقبة تبين لي أن هذا الجمهور، هو جمهور العمل التطوعي فعلاً، وتذكرت نفسي، أنني لم الحظ استمرارية العمل التطوعي لأسباب شخصية على الأغلب، ربما لأني لم أنخرط في أجواء المنظمات الاجتماعية والمدنية، أو أن فكرتي الخاطئة عن مصادرة العملية التوظيفية للعمل التطوعي، أو ربما وبكل بساطة، أن هذا العمل لم يحظ بالتغطية الإعلامية اللازمة، مع ذلك تبقى هناك ملاحظات يجب ملامستها والإشارة إليها، ذلك أن الحفل الذي يعني من خلال عنوانه "العمل التطوعي في فلسطين"، لم يحظ باهتمام الكل الفلسطيني بقدر حصره بشكل على قطاع غزة، ولعبت الجغرافيا السياسية المصطنعة دورها في أن لا يأخذ العنوان مضمونه الوطني الشامل، وحتى التاريخ الذي أعيد تذكيرنا به كان منصباً على قطاع غزة، مع أني أعلم تماماً أن العمل التطوعي ساد كل أنحاء فلسطين ورواده كانوا يعيشون في الوطن الشامل بكل حدوده، وتذكيرنا "بالعونة" الفلسطينية لا يشفع تجاهل العمل التطوعي الحالي في كل أنحاء فلسطين، بما في ذلك الشتات الفلسطيني، حيث كان العمل التطوعي، في لبنان وسورية والأردن، يشهد نمواً وتعزيزاً طوال الوقت، مع أنه يخبو حيناً ويعيد إلى نفسه قدرته على التعزيز والتقدم.
وإذا كان العمل التطوعي هو ركيزة من ركائز المجتمع الضرورية في ظل تراجع دور الأنظمة السياسية والسلطات القائمة في توفير بنية اقتصادية ثقافية اجتماعية للمجتمع، وخاصة في إسناد الفقراء والمهمّشين والمساهمة في استقرار المجتمع الفلسطيني بشكل عام، فإن العمل التطوعي يؤدي إلى توفير عناصر الصمود والمجابهة، الصمود كي لا تتزايد هجرة الشباب والعقول الفلسطينية، والمجابهة مع الاحتلال عندما يتم توفير السلم الأهلي وتعزيز الجبهة الداخلية وتقويتها، لذلك فإن العمل التطوعي ليس مجرد دعم ومناصرة وعون، بل إنه أحد عناصر المقاومة، إذ إن جبهة داخلية مخلخلة وضعيفة لا يمكن أن توفر المقومات الضرورية لمجابهة الاحتلال، وهو سلاح بيد المجتمع يقوى به على كل عناصر التشتت والضياع.
وتزداد أهمية العمل التطوعي، في قطاع غزة تحديداً، بالنظر إلى الحروب العدوانية الثلاث التي شنها الاحتلال الإسرائيلي عليه، ذلك أن التكاتف الشعبي إلى التراث الشعبي، الذي تكمن فيه "العونة والإسناد" في مكانة مرموقة منه باعتبار أن الملمات والأحزان والتشرد، لا يمكن أن تعالج فقط من خلال برامج الإعمار، ذلك أن العمل التطوعي يعمل على معالجة الآثار النفسية والاجتماعية لما خلفه الاحتلال بحروبه المستمرة على قطاع غزة تحديداً، دون أن نتجاهل الطبيعة الأساسية.
لعل التطوع في إعادة الإعمار بما توفر من فرص لهذا العامل، في مجالات الرعاية الصحية والاجتماعية وما تقدمه جهات مدنية متطوعة لإعادة إعمار الإنسان الفلسطيني الذي حاولت أداة الحرب الإسرائيلية تحطيمه والنيل من معنوياته جسمانياً ونفسياً.
وقد لاحظت، وأنا أحاول أن استل فكرة جديدة في هذا المقال، أن السلطات الحاكمة، باتت تستند إلى العمل التطوعي، هي أيضاً، ولم تعد تقدم على تعزيز خدماتها للمجتمع في الوقت الذي تضطر فيه المؤسسات التطوعية إلى سد هذا العجز الفاضح في تراجع وتلكؤ السلطات القائمة في القيام بدورها باعتبار أن هذا الأمر هو سبب وجودها أصلاً، العمل التطوعي والحال هذه ليس بديلاً عن خدمات السلطات القائمة، لكنه رديف لا يعوض عن الدور الرسمي الذي بات يعتمد اعتماداً متزايداً ـ غير مبرر ـ على العمل التطوعي من قبل مؤسسات وأفراد، كي تنسحب من دورها الجوهري والأساسي.
لقد عزز حضور المتطوعين والمتطوعات، كما هي الحال مع رواد العمل التطوعي ثقتي بقدرة شعبنا على استمراره في العطاء، وكانت فرصة لأتعرف إلى تاريخ العمل التطوعي ورواده، خاصة ذلك الدور الذي لعبه الدكتور حيدر عبد الشافي وزملاؤه ومؤسسة الهلال الأحمر الفلسطيني، دون أي تجاهل لتاريخ حافل من العمل التطوعي الفلسطيني الشامل!!