النظام الذى لا يُلدغ فيه المرء من جحر مرتين

thumbgen (42)
حجم الخط
 

ربما لن يفيد مصر كثيرا أن تدخل فى أزمة مع هذا الطرف أو ذاك، ولها الحق كل الحق فى رد الإساءة ووضع النقاط فوق الحروف.

ربما لن يفيد مصر كثيرا أن تنشغل زيادة عن اللزوم بالأزمات الطاحنة الناشبة فى الإقليم أو أن ترتب أوضاعها حسب موقعها فى المعادلات بين القوى المتصارعة والأخرى المتكالبة على الإقليم، فتعتبر أنها انتصرت بانتصار فريق أو صديق أو قد تتأثر أوضاعها سلبا بهزيمة أو فراق مع شقيق.

دعونا ننفذ إلى جوهر الحقيقة. نحن شئنا أم أبينا نقطن فى منطقة موبوءة بالنزاعات العرقية والطائفية ومجموعات العنف والإرهاب.

شئنا أم أبينا أيضا فكل ما حولنا من نزاعات محكوم بقوى دولية محددة. بالأساس ثنائية أمريكية- روسية تقوم على منهج الاعتماد الوظيفى المتبادل. تقيم وتقعد تراكيب سياسية واجتماعية داخل كل الإقليم. تغلب أقلية على أغلبية وفرس وترك وإسرائيليين على كل العرب فى المنطقة، والخاتمة معروفة ومعتادة: تسويات وصياغات ومعادلات وتراكيب سياسية واجتماعية معتمدة دوليا وإن اكتسبت صبغة محلية هنا أو هناك. هكذا جرت وانتهت حروب القوى العالمية فى منطقتنا، وهذا هو حال ومآل الحرب الدائرة الآن. ونعرف أننا لا نسأل فى حروب من هذا النوع: ما هى حصتنا؟ بل ما هو نصيبنا من المصيبة؟

ما يفيدنا حقا: ألا نقع فى مصيبة أو أن تقع علينا مصيبة، ما يفيدنا حقا فى هذه المرحلة هو بناء ستار حماية استراتيجى لوقاية مصر من كامل هذه الطواعين الفتاكة.

لن يفيدنا سوى التركيز على الذات. الاعتماد على الذات. بناء الذات. أى انخراط مهما كان مستواه فى مستنقع أزمات المنطقة لن يكون سوى انحراف عن الهدف المركزى. بناء وتطوير القدرات المصرية الخاصة. بناء الدولة النموذج والمجتمع النموذج. نعم هذا هو الهدف الصحيح لمصر الآن وما دونه يستوجب أن يكون ما دونه.

بناء الذات ليس دعوة لانكفاء أو انعزال إنما لتحديد الهدف الرئيسى للبلاد الآن.

كل انخراط فى أزمات الإقليم الآن انخراط فى سوق سيئة السمعة للأسف الشديد. لن يمكننا تغيير الجغرافيا بالطبع. لكن يمكننا أن نكون خارج مثل هذه السوق أيضا. يمكننا أن نكون النموذج حسن السمعة. يمكننا أن نكون قبلة المنطقة والعالم.

ما بعد الحربين العالميتين الأولى فالثانية، خرجنا بدولة يوليو ١٩٥٢. الآن ليس أمامنا سوى نموذج الدولة الوطنية الحديثة. إن شئت عقدا مصريا جديدا فهو عقد الدولة الوطنية الحديثة. تجاهد مصر منذ عشرينيات القرن الماضى من أجل بلوغ هدف الدولة الوطنية الحديثة، لكن مسعاها لم يكتمل بعد. عبر المراحل مررنا ببعض التكوينات الجنينية، لكن دون أن نحظى بدولة وطنية حديثة جسدا وروحا.

ربما لا يكون مناسبا الآن استعراض أسباب أو معوقات ذلك. إنما من المهم بيان فائدة نظم الدولة الوطنية الحديثة فى ضمان أمن وسلامة الدولة والمجتمع وتقدمها وتفوقها بالطبع.

خذ بعضك واذهب إلى فرنسا ولا تعد إلى هنا قبل أن تجول على كوريا الجنوبية.

هنا دولة وطنية حديثة. وهناك أيضا مثلها.

تسألنى: لماذا ذهبت بى إلى هناك؟ أقولك: أجبرنا مبارك أن يتخلى عن الحكم، دخلنا فى موجة فوضى واضطرابات من

كل نوع. بعدها عزلنا مرسى طلع لنا عفريت الإرهاب. أما فى فرنسا فالرئيس هولاند تأكد بنفسه من أنه لا حظ له فى دورة رئاسية ثانية، فقرر بنفسه عدم خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. وفى كوريا تلوثت رئيسة البلاد بالفساد، تجرى حاليا إجراءات عزلها ومساءلتها دون فوضى بالدولة والمجتمع.

نظم إدارة السياسة والمجتمع فى الدولة الوطنية الحديثة ترعى حريات سياسية واجتماعية لا تجعل التغيير السياسى مقرونا بفوضى واضطراب الدولة والمجتمع.

مثلنا يحتاج الآن أن يكون كذلك. ذقنا مرارة التجربة. مثلنا يحتاج هذا النظام الآن. نظام الدولة الوطنية الحديثة. النظام الذى لا يبدو فيه التغيير قرين الفوضى.

النظام الذى لا يُلدغ فيه المرء من جحر مرتين.

عن المصري اليوم