راهن الكثيرون (وأنا من بينهم) أن يتمكن المؤتمر من وضع إجابات ملموسة على أسئلة المرحلة والتي تتمثل (أي الأسئلة) في القضايا الرئيسية التالية:
أولاً: إذا كانت كل الدلائل تشير إلى انعدام أية فرص تفاوضية جادة مع إسرائيل (بحكم الموقف الإسرائيلي الذي بات مفضوحاً تماماً)، وإذا كانت فرص فرض حال عليها من قبل المجتمع الدولي تكاد تكون معدومة، أيضاً، وإذا كانت إسرائيل قد قضت تماماً على إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وعلى حدود الرابع من حزيران، وهي تهود القدس وتسابق الزمن "لحسم" المعركة عليها، وإذا كانت تعتبر مجرّد الحديث عن حق العودة هو نوع من الإرهاب السياسي، وهي تستهتر بكل الدول والإدارات والمؤسسات الدولية فلماذا لا نُقدم على خطوات مباشرة لردعها وذلك عَبر آليات "جديدة" للتصدي لها من نوع:
1. إرسال رسالة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديداً ورئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ورئاسة دول عدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي والافريقي وكل المؤسسات الدولية والإقليمية، وطبعاً وقبل الجميع رئاسة القمة العربية والجامعة العربية مفادها بأن دولة فلسطين ستسحب في غضون (ثلاثة أشهر) اعترافها بإسرائيل، أو تجميد العمل بوثيقة الاعتراف المتبادل إلى أن يتمكن المجتمع الدولي من لجم السياسة الإسرائيلية.
2. الذهاب إلى استفتاء وطني فلسطيني شامل (ما أمكن) لإقرار هذا التوجه والمدة الزمنية التي تعطى لإسرائيل كي تعترف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران قبل سحب الاعتراف الفلسطيني بصورة نهائية.
3. إذا بقيت إسرائيل على سياستها القائمة اليوم فلماذا لا يتم اعتماد قرار التقسيم كأساس وحيد للاعتراف بالدولة الإسرائيلية من جهة (وهذا هو الأساس الوحيد للاعتراف بها واقعياً) وبالدولة الفلسطينية المقابلة!!؟
أقصد لماذا يتم الحديث أو "التخويف" بالدولة الواحدة، اليس قرار التقسيم هو مرحلة سياسية وقانونية أسبق على مقولة الدولة الواحدة.
4. إذا ما تمّت مثل هذه الخطوات فأنا مع المفاوضات المباشرة من دون أية شروط، والشرط الوحيد لها أن تكون معلنة وعلنية ـ وعلى رؤوس الأشهاد، وعندها إذا ما تم إقحام أو تدخل المجتمع الدولي فإن هذا التدخل سيكون بالتأكيد في مصلحة القضية الفلسطينية، ذلك أن قيام الدولة على حدود الرابع من حزيران تصبح هي الحد الأدنى الذي يقبل به هذا المجتمع الدولي من جهة ويرتضيه الشعب الفلسطيني من جهة أخرى.
5. إذا لم يشعر العالم العربي والإسلامي وكل العالم أننا جادُّون تماماً في كل هذا فإن أحداً لن يتحرك بالحمية المطلوبة، ولهذا فإن فتح التي لامست المسألة في المؤتمر تستطيع اليوم أن تحوّل هذه الخطوات إلى برامج عمل مباشرة.
ثانياً: لم تتجاوز فتح من خلال المؤتمر الأطروحات السابقة حول إنهاء الانقسام، ولم نلمس أنها بصدد وضع أسس راسخة وقوية لإعادة بناء النظام السياسي (وليس المنظمة فقط) بحيث يكون إنهاء الانقسام تحصيل حاصل لهذه العملية من إعادة البناء، ومن التزام الكل الوطني بالشراكة الوطنية كأحد شروط المشاركة في النظام نفسه.
هنا المسألة في غاية الضبابية. لن يتحد الشعب الفلسطيني من جديد حول نظامه السياسي إلاّ إذا شعر أن برنامج القاسم الوطني الأعظم هو برنامج ملزم، ووحدة المؤسسات الوطنية ليست موضع مساومة أو محاصصة أو تقاسم، وأشكال النضال ليست مزاجية أو خاصة أو مقاولات سياسية طبقا لشروط تأثير الإقليم.
ولذلك فليس المهم هو عقد المجلس الوطني، بل الأهم هو أن يُتوّج عقد المجلس في ضوء إقرار استراتيجية الشراكة الوطنية وأسس بناء النظام السياسي الفلسطيني ومرتكزاته.
وبهذا المعنى فإن الملامسة التي جاء عليها المؤتمر من خلال الوثيقة التي قدمها الرئيس أبو مازن أو من خلال المداخلات التي أتى عليها في افتتاح أعمال المؤتمر وفي جلسته النهائية (ما قبل الانتخابات) على الرغم من أهميتها إلاّ أنها بحاجة ماسة إلى التحول فعلاً إلى برامج وخطط وآليات عمل مباشر.
بكل هذه المعاني فإن مؤتمر فتح كان أقل من المراهنات ولكنه فاق التوقعات فيما يخص الحالة الديمقراطية، وفيما يخص وحدة الحركة، وفيما يخص الحركة والحيوية التي أضفاها على الحالة الفلسطينية، وفيما يخص الخروج الآمن من أخطار الانقسام والتشرذم.
لم تتمكن فتح من وضع التصور المطلوب لمسألة المنظمة والسلطة لأن المسألة هي في صلب مهمة إعادة بناء النظام السياسي برمته، وهي لم تتمكن من إبراز الطابع الوطني التحرري للحركة، لأن التداخل بين هذا التحرر ومهمة البناء الوطني هو تداخل موضوعي، ولا يمكن حلّه بقرار إرادوي، ولهذا فإن غياب هذه التصورات هو غياب قسري وموضوعي أكثر مما هو حالة قصور ذاتي.
أما بخصوص القرار الوطني المستقل فإن فتح وهي تؤكد عليه مطالبة إلى جانب هذا التأكيد بوضع المعالم الرئيسية للعلاقات الفلسطينية العربية، والفلسطينية الإقليمية والدولية باعتبار أن هذه العلاقة عضوية من الناحية العربية وأساسية وحيوية في الأبعاد الإقليمية والدولية، دون أن نغفل ولا للحظة واحدة الأهمية الخاصة بالشقيقة الكبرى وهي مصر والشقيقة الخاصة وهي الأردن، ليس فقط بسبب ما يصطلح عليه "دكتاتورية" الجغرافيا ـ على أهميتها ـ وإنما واساساً بسبب "دكتاتوريات" أخرى مثل التاريخ والمصير والمكانة والدور.
بعد أن ضمن المؤتمر لفتح الخروج الآمن فإن فرصة ما بعد المؤتمر هي الأهم والأكبر حتى تكون عند مستوى المراهنات عليها كقائدة ورائدة للعمل الوطني الفلسطيني حتى الآن وربما لسنوات طويلة قادمة.
الجيش الإسرائيلي: المرحلة المقبلة للحرب قد تخالف التوقعات
17 أكتوبر 2023