مؤتمر "فتح" كان عرساً. هكذا أريد له، ورتب له، وخطط له، وهكذا تم إخراج كل تفاصيله.
وككل عرس، جرت كل تفاصيله ومراسمه في العلن، ودخل عبر الإعلام المسخّر له، معظم البيوت في فلسطين وخارجها، وشاركت الناس بطقوسه.
أيضاً، هكذا أرادت ورسمت قيادة حركة "فتح". أرادت أن تعلن نفسها حركة علنية تمارس مقاومة شعبية ومعلنة الأهداف والوسائل. وأرادت إلى جانب ذلك إعلان أنها تنظيم الدولة، وحزبها القائد.
شارك بالعرس كل إخوة النضال بالمباركة والرجاء. وشارك فيه إخوة وأصدقاء كثيرون، ساعد على كثرتهم وتنوعهم وحماس تأييدهم اختيار يوم العرس في نفس يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني.
في اليوم الثاني من أيامه، كانت معطيات ونتائج المؤتمر قد اتضحت إلى حد كبير، باستثناء الهيئات القيادية التي ستخرج عنه، فقد عرفت عضوية المؤتمر بالأسماء والمواقع والمناطق التي أتوا منها، وعرفت وإلى حد ما اتجاهاتهم.
وتم تكريس موقع أبو مازن قائداً عاماً للحركة بانتخاب مباشر جماعي وبالتصفيق وقوفاً، ما يعني بوضوح تكريس ثقة المؤتمر به وبنهجه.
قرأ أبو مازن من ضمن خطاب كاستروي اقتراحه للبرنامج الذي سيصدر عن المؤتمر في جميع جوانبه، السياسية منها بالذات. وقد قوبلت قراءته للبرنامج المقترح بالتصفيق الحماسي من أعضاء المؤتمر أكثر من 200 مرة، ما يعني موافقة على البرنامج المقترح بشكل عام.
انتخاب أبو مازن وتكريس الثقة به، ثم تقبل مقترحه بالبرنامج بالتوقيت والطريقة المشار إليهما، وما بدا فيه من حيوية وصفاء ذهن وقوة حضور ومشاركة ومتابعة لكل أعمال المؤتمر، إضافة إلى ما بدا عليه من صحة موفورة، كل ذلك جعل منه أولاً نجم العرس، ورمى إلى الخلف بعيداً جدل الخلافة والتوريث الذي كان ناشطاً والذي بدا في معظم حالاته متعجلاً ومفتعلاً ومسيئاً، ثانياً.
حتى الهيئات القيادية التي ستخرج عن المؤتمر، ساد توقع مطمئن بأنها لن تحمل مفاجآت نوعية تنعكس على أوضاع الحركة وتوجهاتها، وقد أكدت نتائج انتخاب اللجنة المركزية بالذات صحة هذا التوقع، وجاء التغيير فيها بحدود 33%.
اتضاح معطيات ومخرجات المؤتمر في يومه الثاني فتح باب الجدل الواسع حوله قبل انتظار اكتمال أعماله.
برز في الجدل ناقدون لا يرون في المؤتمر وانعقاده إلا كل سلبي. موقفهم كان مسبقاً، جاهزاً وثابتاً، لا يتغير حتى لو أن "فتح" ومؤتمرها "جابت التايهة" كما يقول أهلنا المصريون، لكن غالبية المجادلين كانوا موضوعيين، رأوا الإيجابي في المؤتمر وتنبهوا إلى السلبي والخلافي فيه.
والأهم هو أنهم تطلعوا- شأنهم شأن أغلبية الناس- باهتمام أكبر إلى المؤتمر ونتائجه وتأثيره على الشأن الوطني العام والمسؤوليات التي يجب على "فتح" أن تتحملها، والمبادرات التي عليها القيام بها تجاه هذا الشأن، وذلك عن وعي لصعوبة الوضع القائم وخطورة استمراره على مسار النضال الوطني ومستقبله.
لجهة الإيجابي رأى أغلبية المجادلين، إضافة إلى ما ذكر مقدماً:
- النجاح في عقد المؤتمر، وإحضار جميع مندوبيه تقريباً من مختلف المناطق إلى مكان انعقاده في رام الله.
- سيادة الديمقراطية والشفافية ودرجة متميزة من التخطيط الشامل والمسبق والتنظيم التي سادت مجرياته.
- النجاح اللافت في تجاوز اللغط الذي كان دائراً حول التجنح والمتجنحين، لصالح روح من التوحد والإيجابية سادت المؤتمر، تفتح الأبواب ولا تسدّها.
ولجهة السلبي والخلافي توقفوا أمام:
- أن العضوية للمؤتمر تمت بالاختيار والتعيين على قواعد وشروط أقرتها الهيئات القيادية للحركة، ما يفتح باب الشك بتدخل الهوى والانتقاء والاستبعاد عند الاختيار.
- أن نسبة وازنة من أعضاء المؤتمر هم من موظفي الجهاز البيروقراطي للسلطة، ما يفتح باب الشك بتأثير ذلك على مواقفهم واختياراتهم في المؤتمر.
- ضعف نسبة الشباب والمرأة في عضوية المؤتمر، ما يثير التساؤل حول دينامية التجديد والتجدد في عضوية الحركة وحيويتها.
- أن البرنامج الذي أقره المؤتمر التزم، في جانبه السياسي، بالنهج الذي ظل معتمداً وسائداً في السنوات الأخيرة، بكل ما عليه من جدل وخلاف وطنيين.وجاء أقرب ما يكون إلى برنامج دولة أو حكومة دولة.
- إن البرنامج أكد الالتزام بنهج المقاومة الشعبية والسعي وراء الاعتراف الدولي بالحقوق الوطنية وبالدولة المستقلة، لكنه لم يفتح أي باب أمام اللجوء لأشكال أخرى من المقاومة.
- أن البرنامج أفرد مساحة جيدة لموضوع الانقسام وضرورة إنهائه لكنه كرر نفس القواعد المعروفة لتحقيق ذلك: حكومة وحدة وطنية، انتخابات عامة، مع استمرار الجهود لفك الحصار عن غزة.
لجهة التطلع إلى تأثير المؤتمر على الشأن الوطني فإنه من واجب حركة "فتح" ومسؤوليتها المبادرة، بمسؤولية ومرونة إيجابيتين عاليتين، إلى "فتح" حوار شامل مع الكل الوطني (تنظيمات وقوى سياسية وأوسع نطاق من ممثلي المجتمع المدني) حوار جاد وطويل النفس لمعالجة القضايا الملحّة في الشأن الوطني.
وتبرز بهذا الشأن ثلاث قضايا على درجة عالية من الترابط والتكامل، وعلى درجة كبيرة من الأهمية:
الأولى، معالجة الانقسام وإنهاؤه، وذلك بمقاربة تقوم على انخراط حركة "حماس" كلياً في النظام السياسي الفلسطيني وهيئاته عبر انتخابات ديمقراطية، مقابل إنهاء كامل سيطرتها المنفردة على غزة، والسعي لإنهاء الحصار عنها.
والثانية، تفعيل هيئات ومؤسسات النظام الفلسطيني على قواعد الانتخابات والمشاركة وسيادة العلاقات الديمقراطية.
والثالثة، برنامج سياسي جديد يؤكد التمسك بالثوابت وبهدف النضال الوطني وطرائق النضال والمقاومة، ويتعامل أيضاً، وبشكل خلاق، مع الالتباس الحاصل بين حقيقة وجوهر نضالنا الوطني كحركة تحرر وطني لم تنجز مهامها بعد، وبين منطق وواقع الدولة/السلطة القائم فعلاً.
العرس انتهى.... متى يبدأ العمل.
غزة هزمت إسرائيل: ماذا بعد؟
11 أكتوبر 2023