الإرهاب، ليس الآفة الوحيدة التي ابتلي بها سكان الأرض.. الأمراض، لا تقل خطرا.. قديماً، كان المرض غالبا ما ينتهي بموت صاحبه، وكانت أوبئة كالجدري والملاريا والكوليرا والأنفلونزا والطاعون تتسبب بإبادات جماعية، تُزهَق فيها أرواح الملايين.
ومع أن الطب قضى على معظم هذه الأمراض في أجزاء كثيرة من العالم، إلا أنه ظهرت محلها أمراض أخرى لا تقل خطورة، ربما كانت موجودة سابقا، ولم يكن الإنسان يعرفها، فكثير من حالات الموت قُيدت ضد مجهول.
على أية حال، فقد زادت في العصر الحديث وعلى نحو خطير أمراض السكري والضغط والزهايمر والإيدز، وأمراض القلب والشرايين والسرطان، وهذا الأخير مسؤول عنه الإنسان أكثر من غيره؛ إنه نتاج تلويث البيئة، وتلويث الطعام بشتى أصناف المضافات الكيماوية.
ولكن من بين أخطر تلك الأمراض تأتي الكآبة، وهي ليست مجرد انتكاسة نفسية تخلّف شعوراً بالتعاسة لبضعة أيام؛ فمن تصيبه الكآبة قد يعاني منها لسنوات عديدة، فلا يستطيع خلالها ممارسة العمل والحب والتآلف الاجتماعي، ولا حتى النوم وتناول الطعام.. وتغدو الحياة في ناظريه سوداء قاتمة، ضيقة.. لا تعطيه إلا التعاسة والحزن.
وتشير الإحصاءات إلى أن نصف من يعانون من الاكتئاب يحاولون الانتحار.
هذا المرض منتشر أكثر مما نتخيل؛ 15% من الناس في الدول المتطورة يصابون به في إحدى مراحل عمرهم، وانتشاره آخذ بالتزايد، خاصة في السنوات الخمسين الماضيات.
الاكتئاب ليس وهما نفسيا، إنه اضطراب حيوي وهرموني، قد يؤدي إلى مرض عقلي، إنه أحد إفرازات العصر الحديث، العصر الذي عَرف ظلما وقهرا غير مسبوقين، وفيه من أشكال العبودية ما لم يكن حتى في زمن الرق!
تؤكد منظمة الصحة العالمية أن مليار إنسان في العالم (أي 1 من كل 7) بالكاد يحصلون على الحد الأدنى من الغذاء، أي الحد الذي يقيم أودهم ويؤخر عنهم الموت قليلا.. ويموت يوميا بسبب الجوع، أو بسبب سوء التغذية، والأمراض المرتبطة بالغذاء قرابة المائة ألف إنسان (منهم عشرون ألفاً يموتون وهم يتضورون جوعاً)، وهذا يعني أنه في كل عام يموت نحو أربعين مليون إنسان من سكان الأرض ظلما، وهذا يعادل سقوط 300 طائرة ركاب يوميا على مدار العام، بحيث لا ينجو منها أحد، والمرعب أن نصف هؤلاء الموتى من الأطفال، ومن البديهي أنهم من دول العالم الثالث.
وهناك أيضا أكثر من مليارين ونصف المليار إنسان دون مراحيض، أي أنهم يضطرون لقضاء حاجتهم في الخلاء. وهنالك أيضا مئات الملايين من المشردين والمعوزين، وممن لا يجدون مأوى، والعاطلين عن العمل، وضحايا الحروب والصراعات الإثنية والطائفية، وضحايا المخدرات والعصابات والاتجار بالبشر.. وغيرها من المعطيات التي تدل على أن البشرية رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي ما زالت متخلفة إنسانيا.
الاستيلاء على السلطة كان محور الصراع تاريخيا، وقد مورس العنف من قبل الفئات الساعية للسلطة أو المدافعة عنها (السلطة بحد ذاتها هي عنف منظم)، وظلت الزعامات تستخدم الناس حطبا في حروبها للاستحواذ على السلطة، وكانت تجد في المبررات الأيديولوجية والدينية وقوداً لهذا الحطب، وبما أن الناس تتكتل عادة ضمن قبائل وطوائف وشيع وأحزاب، وأن الإنسان يجد نفسه ضمن المجموعة المعينة، ويجد فيها السند والحماية، فكان يخترع الفكرة الناظمة التي تؤلف هذه المجموعة، ثم يتعصب لها لتصب في مصالحه الخاصة أو الجمعية، وهذا التعصب يقوده للتطرف. والعنف والتطرف متلازمتان تغذي إحداهما الأخرى.
واليوم فإن آفة العالم هي التعصب، وهو الذي يفرّخ إلى جانب التطرف العنصرية، وبالتالي كراهية الآخر.
وكم من الأرواح أزهقت؟ وكم أنهر من الدماء أُسيلت؟ لأن كل فرد كان يظن نفسه صاحب الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأنه عجِزَ عن تصور الآخر، لأنه يحمل فكرة مخالفة!
لم يوظف الإنسان غباءه ضد أبناء جلدته وحسب، بل ضد الكوكب برمته!! فما زال التسلح النووي يهدد بفناء العالم، والتصحر يزداد مساحة، وتجريف الغابات والعمران يلتهم الأراضي الزراعية، والتلوث البيئي يخرب البحار واليابسة، والاحتباس الحراري وثقب الأوزون، والأمراض الجديدة الفتاكة التي تتكاثر كل عام، وغيرها... وكلها نتائج سلبية لما اقترفته يد الإنسان من إثم وعدوان على الطبيعة.
تنفق أميركا على موازنتها العسكرية ما يقرب من مليار ونصف دولار يوميا، أي ما يعادل موازنة دولة صغيرة لسنة كاملة! ويلقي سكان شمال الأرض من الأطعمة يوميا في مكبات النفايات ما يكفي لإطعام سكان الأرض، بينما يتضور الأطفال جوعا في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية! 10% من سكان العالم يمتلكون 90% من الأموال، والأغلبية الساحقة من البشر هم تحت خط الفقر! ينفق الأثرياء مليارات الدولارات على ترفهم ومجونهم، فيما يموت الأطفال في أفريقيا من أمراض من المفترض أنها انقرضت منذ زمن! الأمية والجهل واستغلال النساء والأطفال والجرائم والمخدرات وغيرها من المفارقات العجيبة في هذا العالم المجنون، وهي من الكثرة والغرابة بحيث يستحيل وصفها، أو اختزالها في مقالة واحدة، أو حتى في مجلدات..
أمام هذا النهج التخريبي، تجد الإنسانية نفسها أمام خيارين: إما الاستمرار في الانتحار الذاتي، وتدمير الكوكب الذي استضافنا وجعلنا الله خلفاء عليه، أو احترام أنفسنا وأجيالنا القادمة، واحترام البيئة ونظام الطبيعة، وعدم التعدي عليها، فتكون نجاة كوكبنا ونجاتنا معه..
بَشّرَ الأنبياءُ والرسل بالهداية، وأضاؤوا مشاعل تفضي إلى عالم السعادة الأبدية، وبنى الرسول محمد (ص) مجتمع الفضيلة في المدينة، وحَلُم "أفلاطون" بالمدينة الفاضلة، ونادى "زرادشت" و"بوذا" و"كونفوشيوس" بالأخلاق، ووضعت القوانين السماوية والبشرية ضوابط الحق والعدل، وتغنّى الشعراء بالحب، وتكلم الفلاسفة عن الحقيقة، وبحث المفكرون عن الخير والسمو، وقطعت البشرية مشوارا نحو الإنسانية، إلا أنها كلها ومضات مضيئة في ليل طويل.
أيها الناس: لكلٍ منّا دين، ومذهب، ولون، وعرق، ودولة، وقبيلة، وطريق، ومعبد، وحُلم، وحدود، وعَلم، وتاريخ، ومستقبل.. ولكنا جميعا نشترك في نفس الكوكب، ونفس الهواء، ونفس المصير.. وخالق واحد، لا يفضل أحداً على أحد، إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلا يستخفنَّ أحدٌ أحَدا ...
﴿ إنّا جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ ﴾.
حركة "فتح": صمت العالم بمثابة ضوء أخضر لحكومة نتنياهو
04 أكتوبر 2023