بالنسبة للفلسطينيين، فإنّ تأسيس الكيانية أو الدولة، يبدو طريقا إلى التحرير، وليس العكس؛ أي ليس التحرير طريقا إلى الدولة. لكن التفكير بالدولة، كما يبدو، مر بأربع مراحل، ربما بدأت آخرها هذا العام، وتكرست في مؤتمر حركة "فتح" الأخير. وواقع الأمر أنّ تحويل برنامج الدولة إلى أمر نضالي ليس متعذرا تماما.
يقول يزيد صايغ في كتابه شبه الموسوعي "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993"، إنّ "الكفاح المسلح أوجد الدفع السياسي والدينامية التنظيمية اللازمين لتطوير الهوية الوطنية الفلسطينية، ولظهور مؤسسات مشابهة لمؤسسة الدولة، ولتشكل نخبة بيروقراطية كنواة حكومية". ويضيف: "وبالتالي، فسح المجال لطبقة سياسية جديدة أن تتكون وأن تحظى بالاعتراف والشرعية وأن تؤكد زعامتها".
ما يطرحه صايغ يقترب من القول إن الكفاح المسلح أدى غرضه، ثم جاءت استراتيجيات أخرى؛ إذ يقول أيضاً: "السر في تمكن الحركة الوطنية الفلسطينية من البقاء، وفي تحقيق بعض أهدافها على الأقل، يرجع إلى قدرتها على إحداث تحولات جوهرية في أهدافها وفي استراتيجيتها في المراحل الحرجة من تطورها".
عمليا، يشكل هذا الطرح الذي يقدمه صايغ جوهر السياسة الرسمية الفلسطينية، حيث القناعة أن التواجد على الخريطة السياسية مقدمة للتواجد على خريطة الجغرافيا.
بعكس الحالات الأخرى، فإنّه في الحالة الفلسطينية، وكما يقول صايغ أيضاً "تبين أن دينامية بناء الدولة لا تبدأ بعد الاستقلال فقط، بل هي تظهر أن السعي إلى الدولة يحدد عملية صوغ الأهداف ووضع الاستراتيجيات واختيار البنى التنظيمية وكيفية إدارة السياسة الداخلية في أثناء القسم الأعظم من النضال الذي يسبق إقامة الدولة".
كانت المرحلة الأولى، إذاً، هي بناء منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت أكثر من مجرد وطن معنوي، بل مؤسسات دولة إلى حد ما. لكن القيادة الفلسطينية التي حاولت منذ نحو العام 1974، إيجاد منفذ لإقامة سلطات الدولة فوق أي أرض فلسطينية، كانت تتردد في إعلان ذلك بكل ما يتطلبه من تنازلات، إلى أن جاءت المرحلة الثانية، في انتفاضة العام 1987، بمبادرة من الشعب في الأرض المحتلة العام 1967، الذي حاول بالانتفاض أن يفرض دولته على تلك الأرض، بحيث تبدو الدولة نتيجة انتصار في معركة على الأرض. وهو ما سهل على القيادة اعتبار أن الأمر حظي بالشرعية الشعبية، وذهبت إلى مفاوضات أدت إلى اتفاقيات أوسلو للسلام العام 1993، وبدأت عملية تجسيد الدولة على الأرض. لكن الطرف الإسرائيلي سعى، سريعاً، إلى تفريغ الأمر من محتواه، ومحاولة تحويل السطة الفلسطينية إلى كيان مساعد للاحتلال.
حاولت الحكومة الفلسطينية، العام 2009، تجسيد فكرة الدولة طريقا لإنهاء الاحتلال، ضمن برنامج لمدة عامين. لكن مع العام 2011، وبينما توجه الرئيس الفلسطيني للأمم المتحدة طالبا الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإنّه بدأ مرحلة ثالثة، من أربعة أعوام تقريباً، كرر فيها التهديد بتسليم مفاتيح "السلطة" وحلها وتحميل الاحتلال مسؤولياته.
توقفت تصريحات الرئيس الفلسطيني في هذا الموضوع مطلع هذا العام؛ 2016، بعد أن تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية تقارير أن السلطات الإسرائيلية تضع خطة طوارئ في حال انهيار السلطة الفلسطينية. فقال الرئيس عباس خلال حفل أقيم في بيت لحم بمناسبة أعياد الميلاد: "سمعت في الأيام الأخيرة كثيراً من الأقوال حول السلطة وهدمها وتدميرها وسحبها، لكن السلطة إنجاز من إنجازاتنا لن نتخلى عنه". وقال: "لن يحلموا بانهيارها أبداً". بعد هذا صار التشديد ثانية على التنمية والتطوير وصولا إلى الدولة. وربما يكون تخلي الرئيس عباس عن مقولة تسليم المفاتيح، ناتجا عن خطط اسرائيلية للبحث عن بديل للسلطة، أشبه بعملاء روابط القرى في الثمانينيات، ولأن هبة الشباب في تشرين الأول (أكتوير) 2015، طرحت ضرورة تبني خيار واستراتيجية محددين بإلحاح. وكان الحديث المكثف عن الاقتصاد والتنمية في مؤتمر "فتح" الأخير، هو تكريس لخيار الاستمرار بالسلطة حتى إنهاء الاحتلال.
يحتاج الفلسطينيون لأن يفكروا أنّهم ربما تبنوا نهجاً غير معهود، يقضي بقيام المؤسسة قبل التحرير. لكن هذا جدل نظري لا معنى عملي كبير له الآن. والتحدي الحقيقي أن تصاغ فكرة الدولة التي تقاوم وتزيل الاحتلال، وليس المؤسسة التي تتعايش معه، في خطة تصبح مقبولة شعبياً، وتتحول إلى شعار وأسس للنضال والعمل اليوميين.
عن الغد الأردنية