تغيرات المشهد الإخواني في الأردن

عبد الغني سلامة
حجم الخط

منذ وصول المد الإخواني إلى الأردن العام 1945، على يد "عبد اللطيف أبو قورة"، ومع قيادة المراقب العام "عبد الرحمن خليفة"، وحتى بداية التسعينيات، ظلّت الجماعة على علاقة وفاق وتعاون مع النظام، بل إنها كانت الجماعة السياسية الوحيدة المصرح لها بالعمل العلني.. وظلت متماسكة تنظيميا، وشعبيتها في تصاعد مستمر، كما ظل خطابها السياسي والدعوي محافظا على نفس الخط..
وفي الانتخابات النيابية الأولى (1989) حصلت الجماعة على أغلبية مريحة في البرلمان، ودخلت معترك الحياة السياسية بأدوات وأساليب جديدة، عبرت عنها بتأسيس "جبهة العمل الإسلامي".
لكن هذه الجماعة التي تتخذ شكل البناء الحزبي المتين في علاقاتها الداخلية، وبطابع يجمع ما بين العمل السري والعلني، لن يدوم ترابطها الداخلي إلى الأبد.. ولن تستطيع إخفاء حملها طويلا، فلا بد لتناقضاتها الداخلية أن تظهر للعلن، ولو بعد حين، شأنها شأن أية جماعة إنسانية، وشأن أية ظاهرة اجتماعية، لاسيما أن أبناءها يشكلون شريحة واسعة من المجتمع الأردني، ومهما تحصنت بغلاف أيديولوجي؛ فإن اشتغالها بالسياسة، وبشكل علني كفيل بإظهار كل النزعات المادية والبشرية لدى أبنائها، وبتفجير الخلافات التي توارت لفترات طويلة خلف الشعارات.
ويمكن لعلم الاجتماع، ولنظريات "الحركات الاجتماعية" مساعدتنا في فهم طبيعة هذه الخلافات؛ فالحركات السياسية تقوى وتضعف، وتبني برامجها استنادا إلى ما يسمى "الفرصة السياسية" المتاحة، وبناء على مدى "الانفتاح" أو "الانغلاق" في الحراك السياسي في البلد الذي تنشط فيه، إضافة لتأثرها بالظرف الموضوعي.
ومن خلال التتبع السوسيولوجي للظاهرة سنجد أن قضية الأصول والمنابت ظاهرة بقوة؛ فمنذ مطلع التسعينيات، أخذ يتشكل داخل الجماعة تيار وسطي يدعو لأجندة وطنية واقعية، عُرف بتيار "الحمائم"، مقابل تيار "الصقور" الذي ظل يركز على القضايا الحزبية والنظرية، ويعطي الأولوية لخدمة القضية الفلسطينية على حساب الاهتمام بالشأن الوطني الأردني، وهو ما شكل عنوانا رئيسا للخلافات الداخلية للجماعة سنوات طويلة؛ والذي ظل يتمحور حول برنامج الجماعة وعملها، إذْ يتهم "الحمائم" قيادة الجماعة برفض العمل بأجندة وطنية أردنية، وإيلاء القضية الفلسطينية الأهمية الأولى في برامجها على حساب الاهتمام بالقضايا الوطنية وهموم الأردنيين، وبالعمل لمصلحة حركة حماس.
فضلا عن اتهامها بالتبعية الكاملة "للتنظيم الدولي للإخوان"، الذي يسعى لجعل الاهتمام منصبا على القضايا المركزية العالمية (وبالنسبة لها أهم قضية هي عودة الرئيس المعزول "مرسي" للحكم).
والحقيقة أن هناك أسبابا أخرى للخلاف بين هذين التيارين؛ فقد وجهت "اللجنة التحضيرية لإصلاح جماعة الإخوان المسلمين" تهماً لقيادة الجماعة الحالية (همام سعيد) بالتفرد، وبإقصاء مناوئيه، وبالعمل على تحريك تنظيم سري داخل الجماعة، وبالتعنت ورفض مبادرات الإصلاح، وعدم الالتفات للأصوات المعارضة، واللجوء بدلا من ذلك لتشويهها.
وبالعودة إلى تاريخ الإخوان في الأردن، سنجد أن الجماعة لم تنغمس في القضايا "المحلية" المصيرية بشكل ينسجم مع حجمها وتأثيرها، لما تمثله هذه المشاركة من إمكانية الصدام مع الدولة، فمثلا كان دور الإخوان هامشيا في أهم حالتيْ احتجاج شهدتهما البلاد خلال العقود الماضية، وهما: هبة نيسان 1989 وأزمة الخبز 1996، كما اكتفت الجماعة بالعمل ضمن سقف الحراك الأردني الشبابي خلال الاحتجاجات التي استلهمت الربيع العربي خلال الأعوام الماضية، والأهم من ذلك أن الجماعة أخفقت على مدى سبعة عقود من العمل السياسي المفتوح في طرح برنامج سياسي واضح ومحدد يعرض على الشعب، بعيدا عن الشعارات الضبابية.
وعوضا عن ذلك ظلت تمارس دوراً إسلامياً شعبوياً "غير مكلف" سياسياً، بدلا من الاتفاق على بناء أجندة وطنية والاستعداد لتحمل نتائجها وتداعياتها.
ماذا كانت نتيجة ذلك؟
في كانون الأول 2001، تأسس حزب الوسط الإسلامي كأول انشقاق عن الإخوان المسلمين، وفي تشرين الأول 2013، تداعى نحو 500 شخصية إخوانية لتشكيل مبادرة عرفت بِـ "زمزم"، والتي أوضحت في بيانها بأن أولوياتها بناء الدولة الأردنية والحفاظ على مستقبل البلاد وأمنها، وذلك خلافا لموقف القيادة التي ترى أن أولوياتها يحددها المكتب التنفيذي والمجالس الشورية، والتي تقوم على توازن الهم الداخلي الأردني مع الملفات الخارجية كالقضية الفلسطينية وأوضاع الجماعة في العالم الإسلامي.
وفي آذار 2014 حدث انقسام آخر في الجماعة؛ حيث حصل "الجناح المعتدل" على ترخيص من الحكومة، بعد أن تقدمت مجموعة من قيادات الإخوان لرئاسة الوزراء بطلب لتصويب أوضاع الجماعة وتكييفها وفقا للقانون المنظم لعمل الهيئات والجمعيات التطوعية، وبناء عليه قطعت الجماعة الجديدة التي يتزعمها "عبد المجيد الذنيبات" المراقب الأسبق للجماعة كل صلاتها بتنظيم الإخوان في الدول الأخرى.
وفي كانون الأول 2015، قام حزب جبهة العمل الإسلامي بفصل عدد من قياداته، ما دفع مئات من كوادر الحزب لتقديم استقالتهم، ثم الإعلان عن تأسيس حزب جديد سيعرف بِـ "مبادرة الشراكة والإنقاذ"، بقيادة "سالم الفلاحات" المراقب العام الأسبق للجماعة، والذي ضم الأمين العام السابق للحزب "حمزة منصور"، بالإضافة إلى مجموعة من قيادات الحزب الحالية والسابقة.
مؤسسو الحزب قالوا إنه سيكون برامجياً لا عقائديا، وسيضع مصلحة الأردن على رأس أولوياته، في إشارة واضحة لانسلاخ تدريجي عن برامج وشعارات الإخوان التقليدية.
يمكن القول إن الانشقاقات السابقة أتت في سياق إستراتيجية الحكومة لتفتيت الجماعة، وتقريب المعتدلين منها، أو في استخدام المنشقين كعصا لتأديب القيادة.
بالرغم من أن الموقف التاريخي للإخوان في الأردن هو الوقوف إلى جانب النظام، ودعمه وحمايته خاصة في الأزمات، وحتى معارضته له ظلت سلمية وبشكل موارب، فمثلا عبروا عن معارضتهم لاتفاقية وادي عربة في إطار المعارضة الحزبية داخل البرلمان، وفي الحراك الشعبي الأردني في سياق ما عرف بالربيع العربي كان نزولهم المتكرر للشارع ومشاركتهم في المسيرات دون أي جنوح للعنف، أو اتخاذ أي خطوات قد تؤثر أو تسيء إلى أمن واستقرار البلد.
لكن هذا لا يمنع من حصول خلافات (حادة) بين الجماعة والدولة، خاصة في ظل المتغيرات الإقليمية.
ومن جهة ثانية إذا كانت الانشقاقات السابقة عبرت عن خروج أعداد محدودة من كوادر وقيادات الجماعة، فإنها مع تواليها ألحقت ضرراً بليغاً بها، وأثبتت عجز القيادة عن استيعاب الأزمات الداخلية، والتكيف مع المرحلة، وجماعة الإخوان اليوم لم تعد تتمتع بقوتها التاريخية، ولا بتماسكها التنظيمي، وهو ما يعكس أزمتها داخل أطرها التنظيمية، وأزمتها الأخرى مع السلطة، فضلا عن التراجع الكبير في شعبيتها، بدليل نتائج الانتخابات.