أمام التهديدات الفلسطينية بمحاكمة بريطانيا بشأن إطلاق وعد بلفور، وهو تهديد أول من بدأ به الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في أيلول (سبتمبر) الماضي، تابعت رئيسة الوزراء البريطانية (الجديدة) تيريزا ماي، مواقف سلفها ديفيد كاميرون؛ فقدمت هذا الأسبوع خطاباً وصفته الصحف الاسرائيلية ذاتها بأنه "مؤيد لإسرائيل بشدة"، ممتدحة وعد بلفور الذي صدر العام 1917، ومعتبرة أنه واحد من "أهم الرسائل قي التاريخ".
تحدثت ماي أمام أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين، في حفل ضم نحو 800 شخص. وبحسب ما نقلت صحيفة "جويش كرونكل" اليهودية القديمة في بريطانيا، فإنّ رئيسة الوزراء تعهدت "بإحياء ذكرى مرور قرن على الوعد" بتأسيس ما سماه الإعلام الاسرائيلي "دولة يهودية"،
بـ"فخر". الأكثر من هذا أن رئيسة الوزراء قالت إن حل الدولتين يجب أن ينشأ بالمفاوضات (أي من دون ضغط على اسرائيل). وأكدت ماي أهمية العلاقات الإسرائيلية-البريطانية المتزايدة، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في مجالات اقتصادية، مثل الرعاية الصحية، وأمن المعلومات، ومكافحة الإرهاب. وكما ديفيد كاميرون، عارضت ماي مقاطعة البضائع الإسرائيلية. وبعد هذا هاجمت المستوطنات الإسرائيلية، وقالت إنها غير شرعية ويجب أن تتوقف.
في الحفل ذاته الذي جرى في لندن، وقف السفير الإسرائيلي إلى بريطانيا، مارك ريغيف، يطلب من الحضور من أنصار إسرائيل، أن يبادروا إلى تحمل 2500 جنيه استرليني عن كل منهم، لأخذ وفود من السياسيين في زيارات لإسرائيل. وتباكى ريغيف أنّ النواب المؤيدين لإسرائيل يتعرضون "لتهديد".
الواقع أن الإسرائيليين بدأوا منذ منتصف العام الحالي بالحديث عن كيف سيحيون ذكرى وعد بلفور. وفي آب (أغسطس) الماضي، كتب المحرر في صحيفة "الديلي ميل" البريطانية، على مدونة على موقع "جويش نيوز" التي تصف نفسها أنها أكبر صحيفة يهودية بريطانية، متسائلا ما هي سياسات ماي إزاء اسرائيل؟ وقال إنّه على الرغم من تأييدها المعتاد لإسرائيل، إلا أنّ موقفها من إحياء ذكرى وعد بلفور سيكون بمثابة اختبار.
من الواضح أن موقف بريطانيا يتجه نحو الأسوأ بالنسبة للحقوق الفلسطينية، وأن الهجوم المضاد الإسرائيلي ناجح حتى الآن.
إذا كان الفلسطينيون يفكرون بحملة بمناسبة مائة عام على "بلفور"، فالإسرائيليون، على أقل تقدير بدأوا هذه الحملة بطريقتهم. وواقع الأمر أن موقفاً فلسطينياً منفردا بشأن وعد بلفور أو غيره لن يكون مجديا. وربما يكون الأجدر البحث عن تبنٍّ عربي، وإدانات جماعات حقوق إنسان، وقانون دولي، وهيئات عالمية لهذا الموضوع.
تنبع أهمية الجدل حول "بلفور"، أنّه يثير شرعية تشريد الفلسطينيين، ويثير قضية اللاجئين التي تصطدم تماماً مع نص وعد بلفور نفسه، الذي قال إنّ تأسيس وطن قومي لليهود لن يمس الحقوق المدنية لغير اليهود (بغض النظر عن عنصرية هذا القرار وعدم شرعيته).
لقد كان الفلسطينيون على مدى سنوات يحققون تقدما على صعيد المقاطعة وسحب الاستثمارات، ويحققون تقدما على صعيد المؤسسات الدولية. لكن الهجوم الإسرائيلي المنظم منذ بداية العام على الأقل، يحقق نجاحات تتطلب إعادة تعبئة الصفوف الفلسطينية، وصفوف حملات التضامن الدولية.
إن وضع حملات التضامن مع الفلسطينيين ليس في أحسن صوره؛ فغالبية المجموعات والأطر التي تبلورت مع انتفاضة الأقصى، وحملات مناهضة الجدار (أي قبل أكثر من عشر سنوات)، هي في تراجع تام (بسبب تقدم أعضائها في السن وعدم وجود مأسسة أو أحداث تعزز التضامن). إن إسقاط القضية، يوم الجمعة الماضي، ضد أربعة جنود إسرائيليين كانوا يحاكمون غيابيا في تركيا، بسبب ما وقع على سفينة "مافي مرمرة" التركية العام 2010، والتي كانت تنقل مساعدات إلى قطاع غزة المحاصر، ليس إلا نموذجا عن كيف ينجح الهجوم المعاكس الإسرائيلي.
إثارة وعد بلفور قانونيا، وسياسيا، وأكاديميا، وإعلاميا، قد يكون لها انعكاسات كبيرة، خاصة أن الإسرائيليين يريدون على ما يبدو إعلانا بريطانيا، وربما غير بريطاني، يحتفل بالوعد ويجدده ويوسعه.
عن الغد الاردنية