ما هو الجواب الأرجح على سؤال المرحلة:
إلى أين يتجه تطور الإقليم
وبصورة أكثر تحديداً:
هل نجح مخطط تقسيم المنطقة والدول إلى دويلات طائفية وعرقية ومذهبية ودينية، أم ان هذا "المسار" قد تعثّر وهُزم وتراجع في عموم الإقليم وهو (أي المخطط) يراوح في أفضل حالاته!!؟
بالجواب على هذا السؤال تتفتح أمامنا فرص واسعة للتأمل والتفكير فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي على وجه الخصوص.
واضح لكل من يمتلك عقلاً سياسياً سوياً ـ وأكاد أقول من يمتلك عقلاً ـ ان إسرائيل راهنت على "نجاح" هذا المخطط، وعملت بكل الوسائل للوصول إلى النتائج التي كانت تنتظرها، باعتبار أن نجاح مثل هذا المخطط كان سيعني حتماً إعادة إحياء كبيرة وقوة دفع غير مسبوقة للأساس الفكري (الأيديولوجي) للحركة الصهيونية وأهدافها.
بصورة ملموسة كان مثل هذا المخطط سيُخرج إسرائيل من سؤال أسميّه [المأزق التاريخي الوجودي للدولة الإسرائيلية]. هذا المأزق باختصار وتكثيف يتمثل في استحالة بقاء المشروع الصهيوني فعالاً وربما قائماً بل استحالة بقاء الدولة الإسرائيلية نفسها بقدر ما تكون هذه الدولة متعلقة عضوياً بالحركة الصهيونية، طالما انه لم يتم قبول وتقبل هذه الدولة كدولة طبيعية في المحيط العربي والإسلامي قبل قبولها من المحيط الدولي.
بالمعنى التاريخي هذا القبول والتقبل هو شرط موضوعي ـ كما أثبتت التجربة البشرية ـ لا تستطيع عوامل ذاتية مهما كانت أن تتجاوزها.
ولأن الحركة الصهيونية هي حركة عنصرية في جذورها فقد رفضت فكرة العيش المشترك على قاعدة الحق والإنصاف والعدل. وهي تعلن اليوم في نسختها القومية الدينية المتطرفة جهاراً نهاراً أن على العالم الفلسطيني والعربي والإسلامي أن يتعايش معها (أي إسرائيل) على قاعدة الخضوع التام للشروط الصهيونية، وهي شروط مدعومة ومدعمة بالتفوق العسكري، فقد يؤدي مشروع الشرذمة في المحيط الإقليمي وقيام دويلات ذات طابع يتجاوز المسألة الوطنية من كل جوانبها، بل يقوم على أنقاضها إما إلى انتصار تاريخي استراتيجي للمشروع الصهيوني في حال إن نجح هذا المخطط، أو إلى نهاية هذا "الحلم" وإلى انكفاء هذا المشروع وتهتكه وربما اضمحلاله نهائياً.
أزعم هنا أن جوهر الصراع في هذا الإقليم يتمحور اليوم حول هذه المسألة، وان ادراك الأبعاد التي ينطوي عليها هذا الصراع من هذه الزاوية بالذات هو الموضوع الأهم في رؤية واستشراف المستقبل.
أقصد إذا لم تلحظ الحركة الوطنية الفلسطينية كل هذا، ولم تدرك أبعاده، فإن كل ما يقال حول "استراتيجيات" مطلوبة هو كلام فائض، في وصف مؤدب ووقور وربما خجول ومحتشم للغاية.
نجاح مخطط "الدويلات" يعني ببساطة تحول إسرائيل إلى دولة يهودية طبيعية مقبولة ومتفوقة ومسيطرة، أما فشل هذا المشروع فيعني مواجهة الواقع واضطرار إسرائيل موضوعياً إلى التأقلم مع المحيط بكل ما يتطلب ذلك من تغيير مهما كان بطيئاً وصعباً نحو الانسجام والتناغم مع هذا المحيط، وفق شروط تاريخية جديدة أهمها إنهاء الطابع العدواني والتوسعي لها.
إسرائيل تدرك الأبعاد التي ينطوي عليها هزيمة مشروع "الدويلات" ، ولهذا فهي تسابق الزمن علّها تحصل على أكبر درجة من المكاسب قبل الإعلان الرسمي عن هزيمة هذا المشروع، وقبل أن توضع الاستحقاقات على جدول الأعمال.
إسرائيل على عجلة من أمرها لأن تحشيد المجتمع الإسرائيلي لن يكون سهلاً في حالة إن تعافى الإقليم، وفي حالة إن بدأت تحولات وطنية ديمقراطية في الإقليم العربي، وفي حالة تحول الجمهور العربي من دور المتفرج إلى دور المساهمة في البناء الديمقراطي وفاعل سياسي نشط في اطار الدولة المدنية.
ولهذا فإن مواجهة المشروع الصهيوني اليوم تتطلب في الواقع الفلسطيني والعربي إعادة بناء الذات الوطنية، وقطع الطريق نهائياً على مشاريع "الدويلات" والشرذمة والتفتيت. كما تتطلب هجوماً سياسياً باتجاه المجتمع الإسرائيلي باعتبار أن الخيار أمامها ـ في ضوء ترنُّح مشروع "الدويلات" هو خيار العدل والإنصاف والتعايش القائم على الحقوق كاملة وغير منقوصة. أسهل علينا وعلى الشعب الإسرائيلي معركة تغيير إسرائيل من أية معركة أخرى، وأقصر الطرق على الشعب الإسرائيلي للعيش بأمن وسلام هو طريق التغير نحو السلام وليس التجييش لحروب لا طائل من ورائها، فنحن هنا وعلى هذه الأرض ولا فكاك لإسرائيل من شعب قاتل لقرن كامل دفاعاً عن حقوقه، وليس لنا، أيضاً، من فكاك من الشعب الإسرائيلي بعد أن أصبح أمراً واقعاً على نفس هذه الأرض وتحول إلى جزء من الواقع القائم فيها.
التواصل مع المجتمع الإسرائيلي ليس سهلاً والمعركة على هذا الصعيد ليست نزهة سياسية، بل على العكس هي معركة طويلة وقاسية وتجابه مقاومة شرسة من اليمين في إسرائيل ومن أوساط صهيونية أخرى ما زالت تنجرف مع اللوثة القومية الدينية التي تجتاح إسرائيل تماماً كما تجابه من الكثيرين منا ومن العرب.
لا توجد معركة يمكن أن تُحيّد الاختلال الخطير في موازين القوى بيننا وبين إسرائيل أهم من معركة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي والتأثير عليه والتفاهم معه، ولا توجد معركة أكثر نجاحاً أو يمكن أن تكون أكثر نجاحاً من تجريد اليمين الديني القومي من "أسلحته" في تحشيد المجتمع الإسرائيلي حول العنف والعنصرية من معركة التفاعل والتواصل مع الإسرائيلي العادي الذي نراه في الشارع كل يوم.
يعتقد البعض أن العنف من الجانب الفلسطيني هو الذي سيجبر المجتمع الإسرائيلي على إعادة النظر في أفكاره وفي مواقفه. الحقيقة أن هذا لم يثبت قط في الحالة الفلسطينية، وأغلب الظن أن خطاب السلام أجدى ألف مرة من خطاب العنف والتهديد به طالما أننا نعي محدوديته المعروفة.
في نفس هذا الوقت لا يجب أن يسمح لإسرائيل بالادعاء أن هناك عملية سلمية (متعثرة مؤقتاً) ولهذا فإن المجتمع الإسرائيلي بحاجة إلى صدمات إضافة إلى التواصل، وأهم هذه الصدمات ـ كما أرى ـ هو العمل المنظم باتجاه سحب الاعتراف بوثيقة الاعتراف المتبادل، وإعادة تذكير المجتمع الإسرائيلي بأن إخضاع الشعب الفلسطيني هو من سابع المستحيلات.
عندما تتوجه للمجتمع الإسرائيلي بخطاب سياسي وليس بخطابة سياسية، وعندما يرون هم بأنفسهم أن المحيط العربي يتحول باتجاه الديمقراطية والتنمية والمساهمة في صنع المستقبل، فليس أمام هذا المجتمع سوى التراجع إلى مواقع العقلانية والمنطق والبحث عن حلول وسط في مصلحة الجميع.