ثلاثة عقود مرت على تأسيس حركة حماس، وبالمناسبة لا يبدو بأن الحركة قد تعلمت الدرس ممن سبقها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وحتى أنها لم تقم بعملية مراجعة سياسية وتنظيمية شاملة، يكون من شأنها تطوير الأداء والتقدم للأمام، بل إن الحركة التي تعتبر في الواقع السياسي الفلسطيني، الفصيل الند لحركة فتح، هذا إن لم تكن الأول مكرراً، إلى جانب الحركة التي انطلقت قبلها بأكثر من عقدين، لم يجعل قادتها من ذكرى انطلاقتها التاسعة والعشرين أكثر من احتفالية، تم خلالها استعراض عسكري، على طريقة الأنظمة والجيوش العربية، التي كانت في ذكرى "استقلالاتها" تقوم بمثل هذا الاستعراض لتقول بأنها قوية في مواجهة العدو الخارجي ليتبين لاحقاً بأن الإعداد العسكري لم يكن إلا لقمع الشعوب وليس لحماية الحدود ومواجهة العدو الخارجي، كذلك إلقاء كلمات المديح، التي لا قيمة لها، فهي أولا وأخيراً لا تعدو كونها لغواً إنشائياً زائداً وعديم المنفعة.
وإذا كان العظماء من البشر لا يتحدثون عن أنفسهم بأنفسهم، بل الناس هم من يتحدثون عنهم، كذلك الدنيا هي التي تتناقل أخبارهم، فإن الأحزاب والتنظيمات والحركات السياسية، مثلها مثل البشر، الناس والمواطنون _ خاصة حين يجري الحديث عن أحزاب تقرر حياة الناس _ هم الذين يجب أن يتم الاستماع لهم، وهم من يقولون الكلام الحسن أو السيئ عن هذا الحزب أو ذاك، وهم الأجدر بالتقييم، فأن يقولوا أخفقت "حماس" في كذا أو أصابت في كذا، برأينا أكثر موضوعية وثقة مما يقوله قادة وكوادر "حماس" عن أنفسهم !
لا بد من القول إن حركة حماس التي شهدت خطاً متعرجاً من الصعود والهبوط في مسيرتها خلال نحو ثلاثين عاماً، باعتبار أنها انطلقت كحركة مقاومة إسلامية، مع انتفاضة العام 1987، فلا يتم تحميلها وزر أو إرث الأخوان المسلمين الفلسطينيين، إن كان أولئك من خلايا غزة أو الضفة، الذي تربوا وتتلمذوا على نهج وأفكار وتعاليم وحتى توجيهات إخوان مصر وإخوان الأردن، فهي أصرت منذ البداية على "التفرد" ببياناتها السياسية والعسكرية، ولم تقبل أن تكون ضمن القيادة الموحدة للانتفاضة، وبعد أن كانت خلايا الأخوان متصالحة مع الاحتلال الإسرائيلي، ظهرت "حماس" مع مرور الوقت في ظل الانتفاضة الأولى متصارعة مع الاحتلال، ما راكم لها قبولا وحضورا ومن ثم احتراما في الشارع الوطني الفلسطيني.
ولأن ظهور "حماس" مرتدية الثوب الديني كحركة إسلامية، جاء بعد انتصار الثورة الإسلامية الخمينية وقبل سنوات قليلة فقط من انهيار جدار برلين، وتفكك المنظومة الاشتراكية العالمية، فقد تصاعد حضور وتأثير الإسلام السياسي، المتحول من الدعوية الجهادية، كما كان حال طالبان والقاعدة ومن قبلهما جماعات احمد شاه مسعود وحكمتيار ورشيد دوستم في أفغانستان، جاء صعود حماس على الصعيد الفلسطيني ومن ثم الإقليمي العربي، حيث بدأت تعقد التحالفات الإقليمية معها بشكل مباشر ومن خارج الإطار الرسمي الفلسطيني، في ظل هذه المعادلة الإقليمية.
لكن مع توقيع اتفاقات أوسلو التي عارضتها "حماس" ونشوء السلطة الفلسطينية بقيادة "فتح" التي صارعتها "حماس" ونازعتها على مكانتها وموقعها، تراجع تأثير "حماس" داخل فلسطين، لكنه سرعان ما تعاظم، حين التقت "حماس" في رفضها لأوسلو والسلطة مع الليكود الإسرائيلي الرافض لها هو أيضا، حتى كان أن تولى الطرفان الحكم كل على جانبه.
وصلت اذن "حماس" للذروة بعد تنفذيها للعمليات داخل الخط الأخضر نهاية عام 1995 / 1996، وبعد 4 سنوات فقط، مع وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، كانت تقود الحالة الفلسطينية فعلياً، ذلك أن رأس السلطة أبو عمار أطلق لها الحبل، ثم سار على نهج المقاومة منذ عام 2000 إلى أن قضى شهيداً عام 2004.
وكان من الطبيعي أن تحصد "حماس" نتائج إسقاطها لأوسلو وان تفوز بالانتخابات التشريعية الثانية، وان تكون على الطرف المقابل لحكم الليكود برئاسة اريئيل شارون، الذي كان قد استبق تشكيل حكومة "حماس" الفلسطينية بالانسحاب من جانب واحد من غزة عام 2005.
لم تحافظ "حماس" على مكانة الذروة التي وصلتها، ذلك أنها أولا حركة غير ديمقراطية، وغير علمانية بالطبع، والأهم أنها قليلة التجربة وساذجة سياسيا، كما هو حال الإخوان عموماً في المنطقة، الذين جاء بهم إلى مقدمة الصفوف الإحباط واليأس بعد تفكك منظومة الدول الاشتراكية وبعد الهزائم العربية في حربي الخليج الأولى والثانية، وليس التطور الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي في المجتمع العربي، فلم تتوافق حكومة "حماس" لا مع الوسط الفلسطيني بشقيه : النخبة والشارع، ولا مع المحيط العربي، فضلا عن الإقليم والعالم.
كان يمكن لحكومة "حماس" أن تبدو حكومة طبيعية، وان تتحلى بالمسؤولية الوطنية، لو أنها توافقت مع الرئيس الذي يمثل الشريك في نظام الحكم السياسي _ أي فتح، ولو أنها ميزت بين برنامج الحركة وبرنامج الحكومة، لكنها بدت كما لو كانت معارضة في الحكم، وأخطر ما في الأمر أنها فضلت التفرد بغزة على الشراكة في حكم الوطن الفلسطيني كله (الضفة والقدس وغزة) فقامت بحسم الصراع على السلطة بقوة ( القسام _ المقاومة ) العسكرية!
حكم "حماس" لغزة خلال عشر سنين يعتبر بكل المقاييس حكماً عقيماً، فكانت السنوات العشر عجافاً، لم تقدم الحركة الحاكمة للمجتمع وللشعب أي خدمات تذكر، رغم جبايتها الضرائب، وعجزت عن أن تسجل إنجازاً إيجابياً واحداً، رغم أن السلطة في رام الله ظلت تعيل نحو مئة ألف عائلة، وتقدم ميزانيات للوزارات الخدمية ( تعليم وصحة وشؤون اجتماعية)، وانشغلت الحركة لتعزيز قبضتها العسكرية بجناحها العسكري، وبتحميل غزة وزر ثلاث حروب متتالية مع إسرائيل، وهمشت المرأة وضيقت الحريات العامة، وكانت سبباً في فرض حصار محكم طوال الوقت، وفي تشتيت الجهد الوطني بإحداث الانقسام السياسي والمجتمعي والوطني، وإذا كان قائد "حماس" الذي يستعد للرحيل من موقع رئيس الحركة، خالد مشعل يتطلع لأن يكون وريثاً للرئيس الفلسطيني في رئاسة السلطة والمنظمة، فان "حماس" نفسها لن تكون وريثاً لحركة فتح، فهي سعت لأن تكون بديلاً لها، والأمر مختلف تماماً، فلم تنجح لا في أن تكون بديلاً، ولا في أن تكون شريكاً، ولا قائداً وطنياً مسؤولاً، لذا فانه حتى لو أن منطق التطور جاء بوريث تنظيمي / سياسي لـ "فتح" فإنّنا على يقين بأنه لن يكون "حماس" ولا بأي حال من الأحوال.
"فتح" لا تتعلم.."حماس" التي تعترف.. ومعركة "عين الحلوة"!
16 سبتمبر 2023