شهد الشهر الحالي ثلاثة احتفالات بذكرى حدث وانطلاقة وتأسيس.
هل هي الظروف العامة غير المناسبة، أم فقدان الناس للحماس، أو غير ذلك، وراء خروج الاحتفالات بشكل تقليدي محدود، وضعيف الاحتفالية؟ أم أن ذلك تعبير حسي عن حالة الضعف، الذي ينتاب الحراك الجماهيري والتراجع في دور الحالة الجماهيرية وزخمها، وسكون أدواتها.
الاحتفالات الثلاثة تطرح، وبشكل محايد تماماً، ويستوعب التمايز وتفاوت الدرجات وربما الاختلاف، أسئلةَ المقارنة مع الواقع الراهن ومسببات هذا الواقع، وفي المركز منها سؤال غياب - أو تغييب - الحراك الجماهيري والابتعاد عن الناس وابعاد دورها بل والتعدي على حقوقها بالمشاركة المسؤولة وبالتغيير والتجديد، وأولها حقها بالمرجعية وباختيار قيادتها ومحاسبتها عبر انتخابات عامة ودورية.
الحدث، هو الذكرى التاسعة والعشرون لانتفاضة الحجارة.
الاحتفال بها جاء الأكثر تقليدية ومحدودية، مع أن أمجادها ومدلولاتها وبطولاتها كانت شديدة العمق والاحتضان في الوجدان الجمعي الفلسطيني، والعربي، وان الحنين إلى كل ما سبق ذكره عنها ما زال عفيّاً وشديد الحضور في مخزون الآمال والتطلعات الشعبية.
الانتفاضة المجيدة، ظلت من بدايتها الأولى وطوال مسارها وبكل تفاصيلها نتاج حراك جماهيري واسع ومبدع. تفجرت بمبادرة جماهيرية عارمة/ هادرة تجاوبت معها وبادرت إلى احتضانها وتنظيمها ثم قادتها التنظيمات الفلسطينية المحلية، دونما استئذان من قياداتها المركزية في الخارج، أو انتظار موافقتها. وحافظت الانتفاضة طوال سنواتها على جوهرها وطابعها الجماهيري بامتياز، وظلت حركة الجماهير ومشاركتها الواسعة والمنظمة ومبادراتها وبطولتها هي محركها ووقود استمرارها وخالق إنجازاتها، كما ظل للمرأة دور مميز فيها وعلى كل المستويات.
نجحت الانتفاضة في تشكيل قيادة مركزية لها ضمت جميع التنظيمات ورموزاً وشخصيات وطنية، وفرضت نفسها كقيادة وطنية للانتفاضة، وفرضت التعامل معها على هذا الأساس (دون التوقف أمام التأخر والتردد النسبيين في انضمام البعض لها). كما نجحت في تشكيل لجان قيادية محلية فاعلة في كل المواقع.
لم تتأخر التنظيمات الفلسطينية والقيادة الفلسطينية في الخارج في التقاط الحدث العظيم والترحيب بالانتفاضة وتبنيها وتقديم كل الدعم السياسي والإعلامي والمادي لها، وشكلت لها قيادة موحدة، بمسؤولية القائد أبو جهاد حنى استشهاده على مذبحها.
القيادة الفلسطينية، كما كل وطني فلسطيني، رأت بالانتفاضة طاقة فرج وأفقاً مفتوحاً على الأمل، بالذات بعد الوضع الذي ساد نتيجة عدوان 1982 والخروج من لبنان، واستفادت القيادة السياسية الرسمية من الانتفاضة وجيرتها كرصيد لها في حركتها السياسية باتجاه التوصل الى حل سياسي، بدءاً من مؤتمر مدريد وصولاً الى أوسلو وما نتج عنها.
اما الانطلاقة، فهي انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ذكراها التاسعة والأربعين. و"الشعبية" انطلقت كامتداد لحركة القوميين العرب محملة بغنى تجربتها النضالية والسياسية وعلاقاتها، وبغنى مخزونها البشري إنْ بالتجربة وإنْ بالرموز الوطنية والقيادية.
من الصعب الحديث عن الجبهة وانطلاقتها دون استحضار أولاً دورها المميز في عموم النضال الوطني الفلسطيني بكافة اشكاله وتعبيراته. ودون استحضار طابعها المحدد والمميز، إنْ لجهة فكرها ومواقفها وعلاقاتها السياسية المنسجمين معه، وإنْ لأدائها النضالي بكافة الأشكال وفي كل الساحات، وإنْ لحرصها الشديد على وحدة الصف الوطني في إطار هيئاته وأدواته الموحدة، وعلاقاتها الحميمة مع أعضاء وقيادات التنظيمات على قاعدة الوحدة والتعددية وقبول التنوع والخلاف الديموقراطي، وإنْ للمستوى الأخلاقي العالي الذي تمتعت به في حياتها الداخلية وفي علاقاتها مع القوى الأخرى، وبالدرجة الأولى مع الناس ودرجة التصاقها بهم وبهمومهم وأشواقهم.
كل ذلك حافظ للجبهة على موقع التنظيم الثاني بقبول واقتناع الكل، ومنح الناس لقب حكيم/ضمير الثورة والأمين عليها للدكتور جورج حبش.
وهل يمكن الحديث عن الجبهة الشعبية دون استحضار قادتها العظام الذين رحل معظمهم: الحكيم، مؤسس الجبهة وبانيها الذي جمع في شخصه توليفة/خلطة استثنائية من توقد الفكر وريادته، وصلابة ووضوح الخط السياسي المنبثق من الفكر والملتزم به، وتجذر الوطنية الفلسطينية في أعماقه بتفاعل وانسجام خلاقين مع القومية العربية والإنسانية العالمية وقيمها الكونية، الى انحيازه المطلق الى الجماهير وآمالها وحقوقها، وصولا الى منظومة الأخلاق والقيم الوطنية والإنسانية التي انزرعت فيه طوال حياته بكامل اتساعها وتنوعها من يوم ان خلق الله الإنسان - والشجاعة الشخصية وشجاعة الموقف في صلبها.
ومع الحكيم كوكبة من القادة الكبار صنعوا معا مسيرة الجبهة الشعبية وأمجادها: الشهيد المناضل أبو على مصطفى، الشهيد الأديب والصحافي اللامع غسان كنفاني، الشهيد وديع حداد، أبو ماهر اليماني، تيسير قبعة، الشهيد جيفارا غزة، الشهيد ابو منصور الخليل.....
وأما التأسيس، فهو إعلان تأسيس حركة حماس في ذكراها التاسعة والعشرين.
و"حماس" تكونت ونمت في رحم ما كان يُعرف بالحركة الإسلامية وهي فرع حركة الإخوان المسلمين في فلسطين. فجاءت محملة بفكر تلك الحركة وبرنامجها وملتزمة بهما، إضافة الى تجربتهما العملية.
شكل قيام حركة حماس إضافة نوعية لحركة النضال الوطني الفلسطيني بانضمام الاتجاه الإسلامي المنظم إليه. وقد ساعد على انتشار "حماس" السريع الفراغ الذي لم تنجح القوى اليسارية والديمقراطية في إشغاله بعد اتفاقات أوسلو، إضافة الى المد الإسلامي المنتشر.
أيضا هنا لا يمكن الحديث عن "حماس" بدون استحضار مؤسسيها وقادتها الذين استشهدوا: الشيخ احمد ياسين، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، أحمد الجعبري، صلاح شحادة....
لكن "حماس" وضعت نفسها في موقع الند الموازي وربما البديل للمؤسسات الجامعة للشعب ونضاله الوطني ورفضت الانضمام لها، ثم جاءت سيطرتها على غزة والانفراد بحكمها لتشكل المظهر الأكثر ملموسية لحال الانقسام القائم.
وتبقى قائمة، تنتظر الإجابة، أسئلة المقارنة مع الواقع الراهن ومسببات هذا الواقع، وفي المركز منها سؤال دور الجماهير وحراكها.