أدب العودة

98
حجم الخط

خبر : كتب : عادل الأسطه

توجه إلي الدارس أنس العيلة، ابن قلقيلية الذي يدرس في فرنسا، ويكتب أطروحة دكتوراه عن أدب العودة بأسئلة عديدة عن أدبيات العائدين، وطلب مني أن أجيب عنها، لكي يستكمل رسالته. 
سألني أنس السؤال التالي:
أنت من النقاد القلائل الذين تحدثوا عن قضية العودة في الأدب الفلسطيني، كما جاء في كتابك الرائد "أدب المقاومة.. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998) والذي يخلص إلى أن النصوص الأدبية المكتوبة في المنفى تميزت بالتفاؤل، وأن النصوص التي كتبت بعد أوسلو انتهت إلى خيبة وصدمة. كيف انتبهت لهذه القضية التي كانت حديثة العهد في ذلك الوقت؟ ومن أين جاء اهتمامك بهذا الموضوع؟
وسأجيب أنس:
أنا من النقاد الذين كتبوا عن أدب العائدين، ولم أتتبع أدب العودة منذ بداياته، أي منذ العام 1948. وكانت البدايات منذ توقفت أمام التغيرات التي أجراها محمود درويش على سطره الشعري: "إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار". يومها كتبت "هواجس عن الأدب الفلسطيني واتفاقية السلام" ونشرتها في مجلة "كنعان". 
وتعزز الأمر في حزيران 1997، إذ طلب مني صحافي فلسطيني أن أجيب عن أسئلة توجه بها إليّ لينشرها في جريدة "الحياة" اللندنية ـ الأصح في جريدة الشرق الأوسط ـ ، وذلك بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على نكسة حزيران، وكنت في هذه الأثناء أنجزت دراسة عن رواية يحيى يخلف "نهر يستحم في البحيرة" (1997) واخترت لها عنواناً لافتاً "يحيى يخلف.. من تفاؤل المنفى إلى خيبة العائد"، ولما كنت قارنت ما بدت عليه نهاياتها بنهايات رواياته التي كتبها في المنفى، فقد لاحظت الاختلاف الواضح. 
كان الروائي، في المنفى، متفائلاً، وعندما عاد إلى البلاد شعر بالخيبة. هذا دفعني إلى متابعة ما صدر من أعمال روائية في تلك الفترة، روايات كتبها روائيون يقيمون في فلسطين (أحمد حرب وأحمد رفيق عوض) وروايات كتبها عائدون (يخلف وزكريا محمد) وقد لاحظت أن الروايات تحفل بالخيبة، وتتبّعت النماذج اليهودية في هذه الروايات، ولاحظت، أيضاً، أن علاقاتها ببعض الشخصيات العربية اختلفت عما كانت عليه قبل أوسلو، وبدلاً من أن تكلل بالنجاح أخفقت العلاقات وانتهت بالانفصال، ولم يختلف الأمر في روايات روائيين ظلوا مقيمين في المنفى مثل توفيق فياض، فنموذج المرأة اليهودية في روايته "وادي الحوارث" (1993) بدا نموذجاً سلبياً.
وسيسألني أنس سؤالاً ثانياً هو:
لا شك أن عودة مجموعة كبيرة من الكتاب، بعد اتفاقات أوسلو، في الفترة الزمنية ذاتها، وهي منتصف نهاية التسعينيات، أنتج نصوصاً أدبية متنوعة حول قضية العودة، سواء في السيرة، كما هي الحال في كتاب "رأيت رام الله" لمريد البرغوثي، وكتاب "منازل القلب" لفاروق وادي، أو في الرواية، كما هي الحال في "بحيرة وراء الريح" ـ يقصد أنس "نهر يستحم في البحيرة"، لأن الأولى أنجزت قبل العودة ـ ليحيى يخلف، أو في الشعر كما هي الحال في قصائد محمود درويش وغسان زقطان، فهل باعتقادك أن ما تم إنتاجه من أدب حول قضية العودة يشكل، حقيقةً، ظاهرة أدبية في الأدب الفلسطيني، أم أنها مجموعة من الكتابات لم تصبح ظاهرة بعد؟
وسأجيب أنس:
الكتابة عن العودة في الأدب الفلسطيني أسبق بكثير من النصوص التي كتبها مريد البرغوثي وفاروق وادي ويحيى يخلف، ولاحقاً غسان زقطان "عربة قديمة بستائر"، بل وأسبق من النصوص الشعرية التي كتبها محمود درويش. إنها تعود إلى 50 ق20، فقد عبر الشعراء، ومنهم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وكتاب القصة القصيرة، ومنهم سميرة عزام، والروائيون ومنهم غسان كنفاني، عن حلم العودة. طبعاً يجب ألاّ ننسى دواوين هارون هاشم رشيد ابن غزة. كان هؤلاء الأدباء عبروا عن حق الفلسطيني بالعودة، وقد برز هذا واضحاً في عناوين دواوينهم وعناوين قصائدهم (عائدون، سنعود، عودة الغرباء، مع العائدين) أو حتى في متن نصوصهم، كما في قصة سميرة عزام "لأنه يحبهم"، وفي رواية كنفاني "رجال في الشمس"، ولقد قتل كنفاني أبطال روايته، لأنه رأى أن حل مشكلة الفلسطينيين في المنافي لا يكون بالابتعاد عن فلسطين، بل بالعودة إليها، ولكن تلك الكتابة كانت عن حلم العودة، ومات الشعراء والقاصون والروائيون قبل أن يتحقق لهم ذلك الحلم، ولما أنجز اتفاق (أوسلو) تحقق الحلم جزئياً، وكان أن عاد بعض الأدباء، فعبروا عن تجربتهم، وكانوا يدركون جيداً أنها عودة ناقصة، وأعتقد أن النصوص التي كتبوها هي جزء يسير من كتابات أدب العودة التي بدأت بالضبط منذ الخروج الفلسطيني الكبير في 1948، وظلت تتواصل حتى اللحظة.
سأتذكر جبرا ابراهيم جبرا وروايته "صيّادون في شارع ضيق" (1960)، و"السفينة" (1970) و"البحث عن وليد مسعود" (1978). إن من يتتبع شخصيات جميل فران ووديع عساف ووليد مسعود فسيرى أن حلم العودة ظل يراودها. طبعاً لا أنسى روايات كنفاني وعناوينها الدالة، بخاصة رواية "عائد إلى حيفا". 
إن عودة سعيد. س الشخصية الرئيسة في الرواية كانت عودة مذلة، وهذا ما أدركه اللبدة الذي عاد إلى يافا، فزار بيته ورأى صورة أخيه الشهيد معلقة على الجدار، ومع أن العائلة العربية سمحت له بأخذ الصورة، إلاّ أنه قال: يجب أن نستعيد البيت والصورة معاً. هل ننسى قصائد محمود درويش، منذ خروجه من فلسطين 1970؟ كتب الشاعر في بداية 70 ق20 قصيدته عن أبي علي إياد، وكان عنوانها "عائد إلى يافا"، وحين استشهد ماجد أبو شرار كتب نثراً وشعراً في رثائه، ومما قاله السطر الدال: "قم اقرأ سورة العائد".
مرة قال لي محمود درويش إنه تنبأ بالعودة وهو في المنفى، وأنه كتب عنها، وقال لي: اقرأ قصيدتي "مأساة النرجس... ملهاة الفضة" من ديوان "أرى ما أريد" (1990). يقول درويش في مطلع القصيدة:
"عادوا
من آخر النفق الطويل إلى مراياهم.. وعادوا
حين استعادوا ملح إخوتهم، فرادى أو جماعات، وعادوا من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلام؟
ولئن كان درويش كتب هذا في 1990، فإن أبا سلمى كان كتب قصيدته "سنعود" التي أوردها في ديوانه "المشرد" (1953) مبكراً، ومنها:
ويسألني الرفاق ألا لقاء       وهل من عودة بعد الغياب
أجل ستعود آلاف الضحايا    ضحايا الظلم تقرع كل باب
كل ما سبق يقول إن أدب العودة في أدبنا أدب تعود جذوره إلى ما قبل أوسلو بعقود، ولعلّني أتابع إجاباتي عن أسئلة أنس، وسينشرها بالفرنسية، كما أخبرني.