إزاء أية ظاهرة جديدة، أو أمام أي حدث، تُظهر وسائل التواصل الاجتماعي وفي كل مرة انقساما حادا بين جمهورها ما بين مؤيد ومعارض، وفي كل الحالات فإن الجمهور الافتراضي يبقى متفرجا، شامتا أو لاعنا، ولا يفعل شيئا حقيقيا.. وهنا لا تكمن المشكلة في تباين وجهات النظر واختلاف الآراء.. بل إن هذا بحد ذاته ظاهرة صحية؛ المشكلة في طريقة التفكير ومنطلقاته، وفي تحول الخلاف إلى عداء.. لنأخذ مثلا حرائق الكرمل التي اندلعت قبل نحو الشهر؛ حينها انقسم الناس بين من فرح بها، وعدّها عقابا من الله لإسرائيل لأنها قررت منع الأذان.. وبين من اعتبرها حرائق في أرض فلسطينية توجب الحزن والقلق، لا الشماتة.. اليوم تتكرر صورة الانقسام إزاء ما يجري في حلب؛ فهناك من فرح بتحرير المدينة من قبضة الإرهابيين، وهناك من صبّ اللعنات على النظام، وحمّله وحده مسؤولية الدمار والقتل.
القاسم المشترك بين الحالتين هو طريقة التفكير العاطفية والانفعالية، والتي تنطلق من ذهنية غيبية، تفهم اللحظة التاريخية بمعزل عن ظروفها الموضوعية ومقدماتها.. مثلا، بدلا من البحث عن تفسير علمي لحرائق الغابات (الجفاف والرياح...) فُسرت الظاهرة على أنها غضب رباني.. تماما كما كانت تفعل الشعوب البدائية في تفسيرها للظواهر الطبيعية.. في النهاية انطفأت النيران، وظلت إسرائيل محتفظةً بقوتها وغطرستها، بل إنها اكتسبت تعاطف العالم معها.. فهل هذا يعني - حسب هؤلاء - أن العقاب الإلهي لم يكن فعالا!! المشكلة أن التفسيرات الغيبية تضع صاحبها في مزالق، يضطر إزاءها للجوء للتبرير والمكابرة ولي ذراع الحقيقة..
نفس المشكلة تتكرر في مأساة حلب؛ فبدلا من تناول القضية بأدوات تحليل علمية وبفهم سياسي، اقتصر تناولها على الدعاء والشتائم.. وفهمها على أنها حرب طائفية بين السُنّة وأعدائهم الشيعة والعلويين.. وبهذا الفهم الضيق ضيعنا على مدى السنوات الست الماضية كل الفرص لإنهاء المأساة السورية، بل أمعنّا وبكل إصرار في مدها بمزيد من أسباب الاشتعال.. وتعميق الفتنة الطائفية..
القضية السورية باختصار، هي حرب بين القوى العظمى على أنابيب الغاز، وعلى مناطق النفوذ والهيمنة، وعلى أمن إسرائيل، وكل الأطراف المشاركة فيها، فعليا أو بالوكالة، إنما تسعى لتحسين حصتها في المعادلة السياسية القائمة، وإيجاد موطئ قدم لها في الخارطة السياسية التي يجري إعدادها.. ولولا التدخل الروسي والإيراني لما صمد النظام كل هذه المدة، ولولا الدعم الأميركي ودعم دول النفط وتركيا لما صمدت المعارضة أمام آلة بطش النظام.. وبهذا تحولت سورية إلى حلبة صراع دولي وإقليمي، مارست عليها جميع أطراف الصراع القتل والتدمير.. وظل الشعب السوري وحده من يدفع الثمن.
أكثر وسائل الإعلام التي تهتم بالأزمة السورية غير مهنية، وتكذب، وتضلل.. وتظهِر جانبا واحدا من الصورة الحقيقية.. المؤيدة منها للنظام تركز على جرائم الإرهابيين.. المعادية للنظام أقنعت العالم بأن الجيش السوري وحده من دمر البلد.. وفي الحقيقة أن الطرفين ارتكبا المجازر والفظائع، وساهما بتخريب سورية.. النظام يقصف بالبراميل المتفجرة، يستهدف المدنيين بشكل عشوائي، يمارس سياسة الأرض المحروقة، يدمر ويقتل ويعذب بلا رحمة ولا شفقة، ويمارس الإعدامات الميدانية... المعارضة المسلحة تستخدم قاذفات الصواريخ ومدافع الهاون وأسطوانات الغاز المتفجرة والعمليات الانتحارية (وهذه كلها ضد المدنيين)، تدمر وتقتل وتعذب وتعدم وتقترف المجازر.. وأحيانا بصورة أبشع من النظام.
بالعودة إلى مأساة حلب.. وصورها المروعة والمفزعة، حيث عشرات الآلاف من المدنيين بينهم أطفال، وذوو إعاقة ونساء نزحوا من بيوتهم ليهيموا على وجوههم في صحارى البرد والغربة، وحيث البيوت المهدمة، والأنقاض والخراب، والجثث، وتعذيب الأسرى والمدنيين.. تكفي صور الأطفال الخائفين التائهين التي تفطر القلب.. لا أظن أن هناك من يفرح لهذه المشاهد الرهيبة، إلا إذا كان ينتمي لإحدى سلالات الوحوش المنقرضة.. أمام كل هذه الويلات، السؤال المطروح: لماذا؟! وما هو الثمن الذي تريده الأطراف المتصارعة من هذه الحرب؟! الدفاع عن النظام!! إسقاط النظام!! الهدفان حقيران وتافهان بالمقارنة مع سيل الدماء النازف، وحجم الدمار الهائل، وتهجير الملايين، وتخريب سورية.. لا شيء يبرر الحرب.. لا يمكن فهمها إلا في إطار النزعات الإجرامية لدى المتقاتلين، مهما حاول كل طرف تجميل صورته، وتبرير أفعاله بالنصوص المقدسة أو بالشعارات الوطنية.. تبقى الحقيقة الوحيدة: الحرب بحد ذاتها جريمة.. استهداف النظام للمدنيين جريمة، حتى لو تعرض فعلا لمؤامرة كونية.. استخدام المدنيين رهائن ومتاريس بشرية من قبل المعارضة جريمة، حتى لو كان هدفها تحرير القدس.. جمهور المتفرجين مشارك في الجريمة، ليس لأنهم سلبيون؛ بل لأن مشاركتهم اقتصرت على تأجيج الفتنة الطائفية، ولأن هذا الجمهور اعتاد توجيه عدائه لطائفة كاملة، بأخيارها وأشرارها، بمقاتليها وأطفالها، ولمن لم يولد بعد.
هذه الحرب لن ينتصر فيها أحد.. ستظل حلقة مغلقة من العنف والإرهاب، وموجات متلاحقة من الدمار والخراب.. إلى أن تقتنع طوائف وفئات المجتمع السوري بإمكانية التعايش فيما بينها (كما عاشت سابقا)، وإلى أن ترفع الأطراف الخارجية يدها، وتكف عن التدخل في سورية، وإلى أن تخرج كل القوات الأجنبية: من يسمون أنفسهم مجاهدين، ومن يدّعون أنهم يدافعون عن السُنّة، وكل الميليشيات الأجنبية، وحزب الله وإيران وروسيا.. لن تنتهي هذه الحرب إلا إذا انتصرنا لإنسانيتنا، وخففنا قليلا من حدة أحقادنا وكراهيتنا وتعصبنا..
ويجب أن يُفهم بوضوح أن الشعب السوري خرج بثورة شعبية سلمية هدفها الحرية والعدالة والكرامة.. أما داعش والنصرة وتفريخاتها فهي تنظيمات إرهابية، لا تنتمي للثورة السورية، ولا تمثلها، ولا تعبر عن أهدافها؛ بل هي عبء عليها، وأضرت بها وشوهتها.. هي التي هزمت الشعب السوري، وسحقت ثورته قبل النظام.. اليوم لا يفكر السوري إلا بنجاته، أو بالهجرة خارج الوطن العربي بأكمله.. صارت مصطلحات العدالة والحرية والكرامة مجرد ترف فكري لا مكان له.. حتى الشعوب العربية التي كانت تحلم بالديمقراطية، تخلت عن أحلامها، لأن أية ثورة شعبية سلمية ستجر الويلات والكوارث عليها.. وهذا هو الانتصار الوحيد الذي حققته أميركا ودول النفط، وكل النظم المستبدة.
حماس: - نعلن عن فشل الهجوم البري الذي شنّه الاحتلال على غزة
28 أكتوبر 2023