أحدُ معارفي مواظبٌ على أن يجلس في الندواتِ والمؤتمرات في الصفِّ الأول فقط، لكي يشعرَ بالانتشاء والرفعة، وإنْ حضر متأخراً، ولم يجد مكاناً في الصف الأول، فإنه يلتفتْ حولهُ طالبا النجدة مِن منظمي الاحتفال، ويلتذُّ عندما يُقصي منظمو الندوة أحدَ الجالسين البسطاء من مكانه في الصف الأول، ممن حضروا مبكرين! فيجلس في المكان المغتصب بلذة وسعادة! أما إذا كان الجالسون من ذوي المناصب السياسية الرفيعة، ولا أمل له في المقعد الأول، فإنه، مرة أُخرى يختبر سموَّ منزلته عند سدنة الحفل، فهم، إمَّا أن يعاجلوه بكرسي يحشرونه حشرا في الصف الأول، أو يضعون له مكانا في الممر الفاصل بين كراسي الجلوس، حينئذٍ، يشعر بالانتعاش، ويقيس منزلته بمقدار انشغال سدنة المناسبة به، ويسعد لأنه يُعرقل طريق المرور! أما إذا عجز عن إيجاد أية فرصة للجلوس في الصف الأول، فإنه يُغادرُ المكان لاعنا المناسبة، متحدثا عن نقائصها، حتى وإن لم يُتابعها!
هو شخصية سياسية فقيرة الكفاءة، يقيس الندواتِ كلها بمقياس منصبه السياسي، حتى ولو كان الاحتفالُ لا علاقة له بالسياسة، وليس له مجالٌ يمكن أن يتحدث فيه.
إن هذه الشخصية، لا تغادر الجلسات إلا إذا أتاحَ لها منظمو الندوة مساحةً من التعقيب، مدة أطول من مساحة ضيوف الندوة!
أعتبرُ هذه الشخصية السياسية، نموذجا للعربدة السياسية والحزبية في الساحة الفلسطينية، فقد أصبحَ فرضُ السطوة الحزبية يجري بقوة التنظيم، وباللقب السياسي، وليس بالكفاءة، والثقافة!
هذه الشخصية أثارت سخريتي، عندما رأيتها ضمن لقاءٍ في إطارها الحزبي، فكانتْ شخصية وادعة، هادئة، مستسلمة، لا ترغب في الجلوس في الصف الأول، بل تختار آخرها، ولا تسعى للاعتراض، ولا تقوم بالتعليق على ملاحظات الحاضرين، كما اعتادت أن تفعل في الندوات العامة، حين كانت تستخدم عضلاتِها ومنصبها السياسي بكبرياء وتحدٍ، والغريب أن هذه الشخصية (السامية) كانتْ تتودَّد بذلة للمسؤول الأول في الحزب، وتُظهر له الطاعة والولاء، تارة بهزِّ الرأس عند كل جملة يقولها الرئيس، أو بابتسامة زائفة يرسمها بقلم شفتيه!
للأسف، عندما يلتقي الأندادُ والأعضاء في إطارِ الحزبِ نفسه، تعود هذه الشخصية إلى حجمها الحقيقي، وتتخلص من هوائها المنفوخ، وتُنفِّس عقدة الكبرياء، والغرور، التي تستعملها دائما في منتديات العامة خوفا مِن نقد نُظرائها، ممن يعرفون هذه الشخصية معرفة حقيقية.
النموذج السابق يشير إلى أبرز أنواع الفايروسات في أحزابنا، فأمثالُ هؤلاءِ مصابون بمرض ورم الزعامة، لا يسيئون إلى أحزابهم فقط، بل يسيئون للوطن.
هذا المرض عَرَضٌ من أعراض الترهل الفكري والتثقيفي في الأحزاب الفلسطينية، ويشير إلى وصول معظم الأحزاب التي هي على شاكلة هذه الشخصية، إلى مرحلةٍ خطيرة من المرض، لأن الرجل الحزبي يجب أن يحمل حزبَهُ معه في كل مكان تواضعا، ورايةً وطنيةً، وعنوانا ثقافيا مميزا!
كما أن إثراءَ الحوارات في الندوات والمؤتمرات، لا يكون بعرض العضلات الحزبية، بل بالقدرات الثقافية العملية، التي تجذبُ، ولا تُنفِّر!
سأظلُّ أُرددُ أروع الأقوال التي جرت على لسان الفيلسوف والأديب العربي، الذي عاش فقيرا مُعدما، أبي حيان التوحيدي، في القرن العاشر الميلادي الذي قال:
"ما تعاظم شخصٌ على مَن هم دونَه، إلاّ بقدرِ ما تصاغرَ لمَن هم فوقَه"!!