تعديل «سايكس -بيكو».. إرضاءً (لإسرائيل!)

تنزيل (28)
حجم الخط
قبل أن يصبح مستشار الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي في سبعينيات القرن الماضي، دعا الأكاديمي الأميركي «زبغنيو بريجنسكي» إلى «الاعتماد على الأصوليات الدينية لمواجهة الخطر الماركسي، ولمواجهة هيمنة رجال الدين وإشعال حروب الأديان والطوائف، وتقوية التيارات الدينية التي لا ترى العالم إلا من زاوية الدين والخلافات الدينية». بل إنه أعلن في عام 1980، والحرب العراقية الإيرانية تطحن مقدرات البلدين، أن «المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن فصاعداً هي كيف سيمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى الجارية بين العراق وإيران، تستطيع أميركا من خلالها تصحيح حدود سايكس -بيكو».
 
صهيونياً وإسرائيلياً، الحديث عن مشاريع التقسيم والتجزئة عربياً هو جذر وأصل الحديث عن بداية البدايات في المشاريع المشابهة التي وضعتها وروجت لها مؤسسات غربية. وعن بداية البدايات، من المستحيل، مثلاً، تجاهل الطروحات والأفكار الصادرة عن القيادات الصهيونية التي هي أصلاً، غربية المنشأ والإقامة والعمل، ثم القيادات الإسرائيلية لاحقاً التي كلها تصب الماء في طاحونة تحقيق حلم «إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في عام 1963، أعلن أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني (دافيد بن غوريون) في خطابه في افتتاح مفاعل ديمونة، أن «أمن هذا الكيان يتحقق عندما يكون أقوى عسكرياً من أي تحالف عربي محتمل»! كما أنه القائل: «قوتنا ليست في سلاحنا النووي.. بل في تدمير ثلاث دول عربية كبرى حولنا، هي العراق وسوريا ومصر.. وتحويلها إلى دويلات.. متناحرة على أسس دينية وطائفية.. ونجاحنا في هذا لا يعتمد على ذكائنا بقدر ما يعتمد على غباء الآخرين».
 
 
 
 
وعبر مجلة «كيفونيم» الناطقة بلسان المنظمة الصهيونية، تم نشر وثيقة في عام 1982 أعدها أحد أهم الباحثين والمفكرين فيها، هو «عوديد ينون» العقل المدبر للعديد من استراتيجيات حزب «الليكود» اليميني، خلاصتها «لبننة» العالم الإسلامي كله اعتماداً على التقسيم الطائفي «فالحدود وضعتها الدول الاستعمارية دون اعتبار لهويات الشعوب وتوجهاتها، فيما معظم الدول العربية تضم عدة طوائف غير منسجمة»، معتبراً أنها الطريقة الوحيدة لـ«إرساء شرعية دولة إسرائيل». ثم يضيف: «وبما أن كل طائفة ستكون لها دولة، فوجود دولة يهودية يصبح مبرراً تماماً من الناحية الأخلاقية».
وحديثاً، في عام 2008، كتب «جيفري جولدبرج»، الناشط في اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، والجندي السابق في جيش «الدفاع» الإسرائيلي، سلسلة مقالات في مجلة «ذا أتلانتيك» الشهرية، ترسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، أضاف إليها دولة جديدة في جنوب السودان، وهو ما تحقق بعد ذلك بأربع سنوات فقط، فضلاً عن دولة جديدة مستقلة في سيناء، وتقسيم الصومال، ودولة درزية في شمال الأردن وجنوب سوريا. ثم اعترف بقوة «حزب الله» ومركزيته في جنوب لبنان، فتصور له دولة شيعية مستقلة! وكذلك دولة كردستان، مع إعادة تقسيم سوريا والعراق والأردن ضمن 4 دول هي دولة سوريا الكبرى، ودولة الأردن الكبرى، ودولة العراق السُّنية، ودولة العراق الشيعية. كما أوصى بوضع شبه جزيرة سيناء تحت سيطرة دولية.
 
لكن يبدو أننا أمة لا تقرأ ولا تتابع، فالباحث الأميركي «كين أوكيف»، الذي تنازل عن جنسيته الأميركية بسبب سياسة بلاده الخارجية، تحدث بمرارة وغضب في إحدى حلقات برنامج أميركي بعنوان «الحروب الغبية»، مستشهداً بالأدبيات الإسرائيلية وعلى رأسها كتاب «ينون»، «استراتيجية إسرائيل»، وهدفها الذي بات يتحقق الآن على الأرض في كلٍّ من العراق وسوريا، ألا وهو تفكيك الدول القائمة، من خلال تنشيط الخلافات الإثنية والطائفية وتنشيط أسباب الكراهية، داعياً في ذات الوقت إلى «قطع جميع المساعدات عن إسرائيل باعتبارها دولة إجرامية وفق القانون الأميركي». وفي المقابل، لا يزال موقف الكاتب الإسرائيلي «ميكو بيليد» يُذكَر بين الفترة والأخرى، وهو نجل الجنرال «ماتي بيليد» أحد كبار ضباط جيش «الدفاع» الإسرائيلي، وكيف تحول من صهيوني إلى داعية سلام منعت الدولة الصهيونية كتابه المعنون بـ«ابن الجنرال.. رحلة إسرائيلي في فلسطين» من التداول، حيث خلص فيه إلى أن «إسرائيل دولة عنصرية، فاشية، ظالمة، سارقة، ناهبة حصلت على شرعية دولية مزيفة». كما قال: «إسرائيل تنظيم إرهابي لكنه يمتلك مؤسسات على رأسها جيش هدفه الأول والأخير الإرهاب».
 
العالم العربي في مأزق، وكل الأحداث المؤلمة التي تحدث في منطقتنا تصب في صالح الدولة الصهيونية، والتي تظهر اليوم كأنها الدولة الوحيدة الديمقراطية الآمنة في الشرق الأوسط، وإلا ماذا تعني العملية الإرهابية في مدينة الكرك الأردنية؟! وماذا تعني كذلك عملية تفجير كاتدرائية العباسية في القاهرة؟! طبعاً دون أن ننسى ما يحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا! الفتنة التي تستهدف الأمن القومي للبلدان العربية لطالما كانت صناعة لها مخططون ومنفذون ناشطون، داخليون وخارجيون، على رأسهم إسرائيل التي تواصل، منذ خمسينيات القرن الماضي، العمل على تفتيت الدول العربية إلى دويلات.. ونحن كأننا أمة: «لا ترى، لا تسمع، ولا تتكلم»!