يشكل إعلان موسكو الذي صاغته روسيا إلى جانب إيران وتركيا، خارطة طريق جديدة عكس كل الخرائط القديمة التي عرضت بشأن النزاع السوري والتي استهدفت وقف إطلاق النار والدعوة إلى الانخراط في المسار السياسي نحو تسوية الأزمة السورية.
الاجتماع الذي دعا إليه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وحضره نظيراه التركي مولود تشاويش أوغلو ومحمد جواد ظريف، جاء بعد جملة من الأحداث المتسارعة التي كان لها الأثر في عقد مثل هذا الاجتماع الذي يشكل بصيغة أو أخرى مساراً جديداً في إدارة وتسوية الملف السوري.
أولاً : يمكن القول إن الاجتماع جاء بهذا الشكل بعد التململ الروسي من موقف الولايات المتحدة الأميركية المائع تجاه الأزمة السورية، والشواهد على ذلك كثيرة، لعل من أهمها تصريح لافروف الذي قال إن المحادثات الروسية- الأميركية بشأن سورية هي بلا طائل.
ثانياً: يأتي الاجتماع في الوقت الذي باتت فيه القوات الحكومية السورية هي المسيطر على حلب، ويأتي في خضم المحاولات الغربية للحديث عن مخاوف من احتمال تقسيم سورية، وهو أمر ترفضه موسكو وطهران وأنقرة، لأن التقسيم في سورية سيعني بالنسبة لهذه الدول غياب المصالح الاستراتيجية وكارثة تهدد أمنها القومي وسيادة أراضيها.
ثالثاً: الاجتماع يشكل مصلحة لدى هذه الدول المشاركة في تحديد مستقبل سورية بعد النزاع، حيث أن تركيا التي استدارت من الدعم القوي للمعارضة السورية، إلى مشاركة روسيا نفس المصير في ضرورة محاربة التنظيمات الإرهابية، هذه التركيا ترى أن مشكلة الأكراد هي الهاجس الأساسي الذي توليه كل الاهتمام والعناية.
ثم إن حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة على يد عنصر شرطي تركي قبل يوم من اجتماع موسكو، لم تؤثر على طبيعة العلاقات بين البلدين، لأسباب العلاقات الاقتصادية والتجارية النفعية، ولو أن موسكو استغلت الحادثة لدعم جهودها في تسوية الأزمة السورية بالطريقة التي تديرها وتريدها تماماً.
أنقرة لم تجد مصلحتها مع الولايات المتحدة الأميركية في الملف السوري، لأن واشنطن لم تضع كل بيضها في سلة هذا النزاع، ولذلك ترى الحكومة التركية أن التنسيق مع موسكو بشأن سورية سيضمن لها تحقيق الحد الأدنى من مصالحها، مقابل دفع أثمان أخرى بطبيعة الحال.
اليوم لا يوجد أحد في الرئاسة أو الحكومة التركية يتحدث عن ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، وهذا الحديث غاب خصوصاً بعد نزاع حلب والتطور العسكري الذي تحسمه القوات الحكومية السورية لصالحها، الأمر الذي دفع تركيا للمشاركة في اجتماع موسكو انطلاقاً من تحقيق مصالحها الوطنية العليا.
إيران وروسيا أيضاً تجدان مصالح لهما في سورية الأسد، ولذلك فإن إعلان موسكو بمثابة التأكيد على شرعية الرئيس الأسد في السلطة، وتأكيد آخر على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، إلى جانب كونه قام على أنقاض الفشل الأميركي- الروسي- الأممي في تسوية النزاع السوري.
ولذلك يرى لافروف أن الترويكا الروسية الإيرانية التركية تعبير فعّال لإنهاء النزاع السوري، وكذلك الأمر يفكر الرئيس الروسي بوتين في إجراء محادثات مع نظيريه التركي والإيراني من أجل إجراء مفاوضات سياسية بدون الولايات المتحدة الأميركية.
هذا التغييب لدور واشنطن في النزاع السوري، يعود بطبيعة الحال لتغير موازين القوى في الساحة السورية، أضف إلى ذلك أن الإدارة الأميركية لم تبد استجابة فعاّلة لموضوع محاربة التنظيمات الإرهابية، وليس هناك استجابة أيضاً لموضوع المفاوضات السياسية حول سورية.
وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو الذي التقى وزيري الخارجية التركي والإيراني بعد لقاء لافروف معهما، قال إن الولايات المتحدة وشركاءها ليس لهم نفوذ حقيقي على الأرض، وحين أفصح عن إعلان موسكو، فلعله بذلك يتحدث عن خريطة جديدة لا علاقة لها بمقررات جنيف 1 و2.
لا مناص من الإقرار أن التغير في موازين القوى لصالح روسيا وحلفائها والقوات الحكومية السورية سيعني تغيراً كبيراً في قواعد اللعبة، إذ حين تتجاهل روسيا أميركا في الملف السوري وتدير لها الظهر بإعلان موسكو، فإنها بذلك تقول إن الدب الروسي هو المسيطر في الساحة السورية.
أضف إلى ذلك أن روسيا غير أنها تضمن بياتاً صيفياً وشتوياً في البيت السوري، فإنها بإدارتها هذا الملف تريد تقديم نفسها على أنها القوة الكبيرة التي لا يستهان بها، وأن قواعد اللعبة في الملعب السوري فرضت هي الأخرى تغيراً في قواعد اللعبة على المسرح الدولي.
استثمار القيادة الروسية للملف السوري من شأنه أن ينعكس على إدارة بوتين للملف الأوكراني، ذلك أن هذا النجاح في سورية سيجعل الدول الأوروبية تنظر بعين القلق والخوف للقوة الروسية المتنامية، ولذلك ربما ستدخل العديد من الدول في مشاحنات داخل قلعة الاتحاد الأوروبي، مطالبةً بعودة الوئام مع موسكو، أو على الأقل الحفاظ على مسافة آمنة معها.
ولا يبدو من التهميش الروسي للولايات المتحدة في الملف السوري، أن هناك توجهاً أميركياً لا في مرحلة أوباما ولا ترامب، سيعني تغيراً في قواعد اللعبة، فكما يقول المثل «لو فيها زيت لضوّت»، ذلك أن أوباما ظل كل الوقت يدير الأزمة السورية على قاعدة «رجل قدام ورجل ورا».
إن تسوية الأزمة السورية ستقود بالضرورة إلى تغير جذري في شكل النظام الدولي، تقفز فيه دول كبرى وأخرى إقليمية للحصول على مقعد في شراكة هذا النظام، بينما تجلس دول أخرى في مقاعد خلفية وتنتقل من الفعل المشارك إلى مقعد المشاهد.
وعلى الرغم من القوة الأميركية الكبيرة ومن تضاعف حجم الاقتصاد الأميركي متفوقاً على نظيره الروسي بمراحل، إلى جانب الإنفاق الدفاعي الذي يتفوق هو الآخر بأضعاف، إلا أن روسيا حجزت لها مقعداً متقدماً جداً في سلم النظام الدولي، سواء اعترفت واشنطن بذلك أو لم تعترف.
ولا يتعلق الأمر بروسيا فحسب، بل إن الصين فرضت نفسها بقوة على الساحة الدولية، وهي تشارك روسيا الموقف من حل الأزمة السورية، لكن بكين تشتغل في تحصين وضعها الداخلي، وتنظر إليه على أنه المحرك الأهم في عجلة الدفع نحو اعتبارها من أهم الدول اللاعبة على المستوى العالمي.
وعلى كل حال إذا ما عكس الدور الأميركي تراجعاً في الملف السوري، فليس بالضرورة أنه سيعكس تراجعاً في مواقع أخرى، لكنه يعطي مؤشراً قوياً على أن واشنطن لم تعد اللاعب الوحيد الذي يسرح بالكرة في الملعب دون لاعبين أصحّاء.