عبر سنين تمتد في عمق وجدان أهل المشرق وذائقتهم وأفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية غرست حلب إيقاعاتها الموسيقية و» قدودها» لتصبح مكوناً من مكونات شخصيتهم الجمعية.
في معركة تحريرها ونتائجها تفرض حلب الآن إيقاعاتها، وإن بتقسيمات وتوزيعات متنوعة تمتد من العسكري الى السياسي الى الأمني الى المجتمعي الى التحالفي..وكلها على تنوعها تتجه نحو القادم من أيام المستقبل، نحو وحدة القطر العربي السوري وسيادته، نحو وحدة مجتمعه وتماسك تنوعه الغني وحريته وتقدمه، ونحو دور الاثنين- القطر والمجتمع- المؤثر في مسار كل المنطقة.
قد يرى البعض في أقوال مثل ان معركة حلب الأخيرة ونتائجها قد حسمت كل الوضع في سورية، او ان ما بعدها لن يكون كما قبلها، وما يسير على نفس المنهج من الأقوال، يرى فيها تفاؤلاً غير واقعي واستباقاً للأمور وتغافلاً عن معطيات وعوامل لا تزال فاعلة ومؤثرة.
لكن لا يجوز، بحال، عدم رؤية الإيقاعات الجديدة التي فرضتها حلب بنتيجة معركة استعادتها وتوحيدها، ومحاولة استقراء فعل هذه الإيقاعات وتأثيرها الاستراتيجيين على مستقبل سورية القريب، وأوضاعها.
من هذه الإيقاعات:
الإيقاع الأول، والأهم أن حلب قد عادت موحّدة الى حضن الدولة السورية، بكل ثقلها السكاني الاجتماعي والوجداني والتراثي والاقتصادي والسياسي و.....، وأنها أحدثت تغييراً في توازنات القوى على كل الأصعدة.
الإيقاع الثاني، أن ما كان قائماً من مرجعيات واتفاقات وقرارات لم تعد صالحة، في وضعها الراهن، للحل في سورية، لأنها قامت في ظروف وتوازن قوى، لم تعد قائمة كما كانت، بل حصلت عليها تغييرات جوهرية، وعلى كل الأصعدة. وهي بالتالي، تحتاج إمّا الى استبدال كامل وإمّا الى إدخال تغييرات جذرية عليها.
الإيقاع الثالث، انها كشفت التراجع الملحوظ والمؤثر في الدور الأميركي لأسباب هي موضع اختلاف وجدل، ومعها تراجع دور الدول الغربية بشكل عام. وما اختزال دورها مؤخراً في الإصرار على استصدار قرار شكلي من الأمم المتحدة في الوقت الضائع الا نوع من إثبات الحضور أولاً، وللحفاظ على موقع قدم لها للمشاركة في اي اتفاقات وترتيبات قادمة ثانياً. في الوقت الذي يتراجع اهتمامها وجلّ جهدها الى داخل حدودها لمواجهة الخطر القادم من العفريت الذي ساهموا بإطلاقه بجهالة.
التراجع في الدور الغربي، جاء لصالح ما يمكن تسميته، ولو مجازاً، بالمحور الروسي الإيراني التركي الذي يلعب منذ الأشهر الأخيرة الدور الأكثر تأثيراً في مجريات الصراع في معركة حلب بالذات وفي سورية بشكل عام.
الإيقاع الرابع، أن «معركة» إخلاء مدينة حلب من القوى المسلحة وتعقيداتها جعلت عملية الفرز بين من هو إرهابي وغير إرهابي من قوى وتنظيمات المعارضة المسلحة، كما ظلت الدول الغربية وحلفاؤها تدعي السعي وراءه وتصرّ عليه، جعلتها أكثر سهولة ويسراً.
صحيح أنه في المعركة ذاتها لم يتبين الخيط الأبيض من الخيط الخيط الأحمر القاني تماماً، الا انه حصل درجة من تمايز المواقف بين تلك التنظيمات وصلت الى الاختلاف المسلح في بعض الحالات، ما يساعد على الفرز.
الإيقاع الخامس، انها كشفت عن صعود لافت للدور التركي في معركة حلب وشمال سورية، بشكل خاص، وان هذا الصعود جاء أولاً في كنف الدور الروسي كبير التأثير والحليف الدولي الأول للنظام، وجاء ثانياً بالتفاهم مع إيران الحليفة أيضا للنظام السوري. لكن، ورغم ذلك، يبقى الدور التركي إشكالياً يصعب الاطمئنان التام له. فلا يمكن تجاهل الوجود غير الشرعي وغير المبرر والمدان من الدولة السورية لقوات تركية على الأراضي السورية ولأهداف تثير الشك والقلق. ولا يمكن نسيان ان تركيا شكلت البوابة الرئيسية والأهم لدخول قوى المعارضة والإرهاب الى الأراضي السورية مع كل تجهيزاتها وتمويلها، وما كان لهذه القوى ان تستقر وتتقوى فيها لولا الدعم التركي وتسهيلاته اللوجستية. ولا يمكن تجاهل الوجود الشرعي للقيادة الرسمية للمعارضة السورية بهيئاتها ومراكزها وتسهيلاتها على الأراضي التركية. ولا يمكن القفز فوق استمرار تذبذب موقفها، بين تصريح وآخر، تجاه الترتيبات المستقبلية للحكم في سورية.
لا يكفي لتفسير الدور التركي الجديد الاكتفاء بتخوفها ورفضها الاستراتيجي والمقاوم لمشروع قيام كيان كردي مستقل والدعوات له، وما يحيط بموقف الحليف الأطلسي والأميركي، تجاه هذا المشروع، من التباس وعدم حسم.
تفسير هذا الدور يذهب أبعد من ذلك:
يذهب الى رؤية تركيا لما يحصل في سورية- وشمالها بالذات - وتأثيراته المختلفة التي تكتوي بنارها ومخاطرها في عقر دارها. يذهب الى دورها الإقليمي وطموحاتها الكبيرة فيه، وعدم جواز الا يكون لها دور في أوضاع دوله وشؤونها. يذهب الى طموحاتها بامتلاك اقتصاد قوي ومتطور، وما يمكن للتحالف مع روسيا ان يقدمه لها في هذا المجال. ويذهب ايضا، الى رؤيتها للتراجع في الدور الغربي والتغيير في أولوياته. ويذهب الى عوامل ومجالات أُخرى.
بالتأكيد هناك إيقاعات أُخرى تفرضها حلب، وقد يكون أهمها، الإيقاع العسكري وتوازنه الجديد على القادم من معارك قد تفرض نفسها. وهذا ايقاع له أهله واختصاصيوه.
ألم يكن صحيحاً القول أن حلب هي «ام المعارك» كما كان عنوان أحد المقالات السابقة؟
وفــاء لمناضل
ليل السبت الماضي 17/12 توفي في عمان، هاني الهندي – أبو محمود.
ابو محمود، السوري، كان احد المؤسسين الأوائل لحركة القوميين العرب، مع الفلسطينيين جورج حبش ووديع حداد والكويتي احمد الخطيب والعراقيين حامد الجبوري وسلام أحمد وغيرهم من العرب.
هو أحد المؤسسين الأوائل للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
هو الوزير في أول حكومة قومية ائتلافية تشكلت في سورية بعد الانقلاب على حكومة الانفصال.
هو الذي قامت قوات دولة الاحتلال بمحاولة قتله بتفجير نفذته في قبرص، وكان من نتيجته فقدانه احد ذراعيه، هو المناضل القومي، المفكر، الباحث، والكاتب ( له اكثر من كتاب منها كتابه المهم عن حركة القوميين العرب مع عبد الإله النصراوي).
وهو مربي أجيال من المناضلين الوطنيين والعروبيين.