لم تجد المبررات التي طرحها وزير الخارجية المصري وكذلك ممثل مصر في مجلس الأمن في إقناع أحد بمدى الخطأ الذي ارتكبته القيادة المصرية عندما طلبت سحب مشروع القرار حول الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن، وربما وبشيء من الدهشة، فإن «حسنة» هذا القرار بسحب المشروع، قد زادت من أهمية القرار الصادر عن مجلس الأمن، برقم 2334، فعلى الرغم من أن هناك أربعة قرارات مشابهة تقريباً سبق أن اتخذها مجلس الأمن حول إدانة الاستيطان والمطالبة بوقفه (القرارات 446 ـ 452 ـ 465 ـ 478) فإن لهذا القرار أهمية بالغة بالنظر إلى الظروف التي تم اتخاذه بها، خاصة وأن القرارات السابقة المشار إليها، جاءت عندما لم تكن العملية الاستيطانية تأخذ هذا المدى من الاتساع والتسارع كما حدثت إبان حكومات نتنياهو الأربع الأخيرة، وصحيح أن القرارات المشار إليها جاءت، أيضاً، بامتناع أميركا عن التصويت وبأغلبية 14 صوتاً، إلاّ أن التحدي الأميركي هذه المرة، جعل الامتناع عن التصويت بطعم «النعم» من حيث حالة الاستقطاب والضغوط الهائلة التي مورست على الإدارة الأميركية لكي تستخدم حق النقض بهدف عدم تمرير مشروع القرار، إضافة على أن عامل الوقت لعب دوراً أساسياً لا يجب إغفاله في الحالة الأخيرة، بالنظر إلى أن الدول التي صوتت لصالح القرار وهي ذات عضوية غير دائمة، وصديقة للشعب الفلسطيني، من المقرر أن تغادر مجلس الأمن بعد ستة أيام من موعد التصويت، إذن هي فرصة أخيرة، قد لا تسمح الظروف بتكرارها.
لا يساوي امتناع أميركا عن التصويت، إلاّ سحب مصر لمشروع القرار، واندفاع الدول الصديقة للإسراع باتخاذ موقف أدى في نهاية المطاف إلى تمرير المشروع بنجاح كبير.
تبريرات مصر لسحبها مشروع القرار، تتساوى مرة أخرى، مع هؤلاء الذين حاولوا التقليل من أهمية القرار من خلال البحث التعسفي عن بعض نصوصه، خاصة في الفقرة الخامسة المتعلقة تحديداً بالمطالبة باستمرار التنسيق الأمني وملاحقة الإرهاب باعتبار أن هناك مساواة بين الضحية والجلاد، وذلك ابتعاد متعمّد عن مضمون القرار الذي لا يدين الاستيطان فحسب بل يطالب بوقفه فوراً، الأمر الذي يحول الموقف الإسرائيلي باعتبار الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس، «مناطق متنازعاً عليها» إلى مناطق فلسطينية محتلة، والأهم من ذلك كله أن الهدف الفلسطيني الراهن في مواجهة الاحتلال، متعلق أساساً بخطر الاستيطان الإسرائيلي، وصدور القرار 2334، بصياغته المحكمة يعتبر محاكمة دولية للاحتلال الإسرائيلي وسياسته الاستيطانية.
يُقال إن الموقف الأميركي، جاء انتقاماً من قبل إدارة اوباما، من نتنياهو وحكوماته اليمينية، أكثر من كونه تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، وهذا صحيح نسبياً، ذلك أن الولايات المتحدة، وكذلك كافة أعضاء مجلس الأمن الدائمين، كانت مواقفها واضحة ضد الاستيطان منذ زمن طويل، واعربت عن ذلك علناً من خلال تصريحات ومواقف عديدة، غير أن هذه الدول، وخاصة الولايات المتحدة، لم تترجم موقفها هذا في المؤسسات الدولية، هذه الدول لم تكتف بالتصريح بأن الاستيطان عقبة أمام السلام، بل أشارت بوضوح إلى أن الاستيطان غير شرعي ويضع الدولة العبرية في مواجهة مع القانون الدولي باعتبار الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، اراضي فلسطينية يتوجب أن تشكل أية عملية تفاوضية أداة لقيام دولة فلسطينية عليها.
إن هذا القرار، سيمهد الطريق بشكل غير مسبوق، أمام اللجان المنبثقة عن الأمم المتحدة ومنظماتها الرئيسية، بشكل مختلف باعتبار أن هذا القرار كان الأكثر وضوحاً حول العملية الاستيطانية الإسرائيلية، خاصة في حال «نظر الجنائية الدولية» لشكاوى السلطة الفلسطينية إزاء العديد من الانتهاكات الإسرائيلية للأرض والشعب الفلسطيني.
ومن شأن هذا القرار، أن يعزز الموقف الفلسطيني بعد أيام، عندما يعقد مؤتمر باريس في منتصف الشهر القادم، والذي سيناقش المسألة الأكثر أهمية، والمتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي وكافة الملفات العالقة منذ اتفاقيات أوسلو، ومن شأن هذا المؤتمر، وعلى ضوء قرار مجلس الأمن الأخير حول الاستيطان، أن يدعم ويقوي وجهة النظر الأوروبية التي بدأت بالتبلور مؤخراً حول التوجه إلى مجلس الأمن لفرض إنهاء الاحتلال حتى لو لم تشارك إسرائيل في هذا المؤتمر.
إلاّ أن هذا القرار، يضع على كاهل القيادة الفلسطينية حسن استثماره، كما كان الأمر عليه عند حسن الأداء بالتوجه إلى مجلس الأمن، وهذا يتطلب الآن، وقفا تاما للحديث عن أي عودة للمفاوضات إلاّ بشرط أساسي، وهو تنفيذ قرارات مجلس الأمن، خاصة القرار الأخير حول الاستيطان، قبل أي مفاوضات قادمة، وهذا يتطلب إعادة الوحدة إلى الجسم الفلسطيني وتعزيز صمود المواطن الفلسطيني بما يمكنه من القيام بدوره في عملية المجابهة مع الاحتلال على مختلف الصعد.
إن ترميم علاقاتنا مع المنظومة العربية، أمر بالغ الأهمية، قد نعتب هنا وهناك، لكن لا فكاك عن حاضنتنا العربية مهما كانت الظروف، باعتبار ذلك قدراً لا فكاك منه!!