تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات تحرض على الشيعة، حتى أصبحت مواقع مقيتة، لا تحث إلا على الكراهية والعنف.. والغريب أن معظم الذين يكتبون ضد الشيعة، لم يلتقوا في حياتهم بأي شيعي، وكل ما يعرفونه عنهم مرجعه المواقع الصفراء، وإذا تصادف أن قرؤوا كتابا عنهم فعلى الأرجح سيكون مؤلفه حاقداً طائفياً.. حتى أنَّ أصدقاء لي عاشوا في العراق، وكان لهم أصدقاء شيعة، أكلوا في بيوتهم، وتعرفوا إلى أهاليهم، ولم يجدوا منهم سوى الكرم العربي.. انجروا وراء هذه السعار الطائفي!! وبالمثل يُقال عن سورية، وطوائفها..
في خضم هذه الفتنة يجد المرء نفسه متورطا فيها من حيث لا يدري، وداعما لها، بل وركيزة أساسية لها؛ فوباء الطائفية لا يستفحل دون مشاركة الناس العاديين فيه.. وقد تماهى الكثير من الناس مع موجات التحريض الطائفي، وأصبح خطابهم وتفكيرهم ينطلق من الطائفية أساساً، متأثرين بما تبثه القنوات الطائفية على مسامعهم ليل نهار.
ومن تجليات الطائفية الحالية، أن السعودية، وأحياناً "داعش" أصبحتا ممثلتين عن السُنّة، فيما إيران، أو "الحشد الشعبي" صارا ممثلين للشيعة.. والكثيرون تعاطوا مع الحدث انطلاقا من هذه النقطة! هذه النقطة تحديداً التي صارت حجر الزاوية في التحريض على الكراهية وثقافة الإقصاء والتكفير.
فمثلا، بلدان مثل فلسطين والأردن لا يوجد فيها شيعة، إلا أن مزاجها الشعبي بات محتقناً ضدهم!! ولكن، إذا عُرف السبب بطل العجب؛ فمثل هذا التحول لم يكن ليحدث لولا الحملات الإعلامية المدروسة، التي تبث أفلاما لمتطرفين شيعة، يمارسون العنف، أو لفقهاء شيعة يتحدثون عن أساطير وخرافات.. كأنَّ كل السُنة حمائم سلام، ومشايخهم عباقرة!! هذه الحملات المشبوهة تغذيها عقليات مغرقة في التخلف، وغارقة حتى أذنيها في مستنقع الطائفية.. ومستفيدة منها..
ومثال آخر: ما أن بدأت عملية تحرير الموصل، حتى أخذ البعض يبتهل إلى الله بنصرة "المجاهدين" على "الروافض".. وكلنا يعلم أن من يحتل الموصل ويطبق سيطرته الكاملة عليها، ويستفرد بها منذ سنتين هو تنظيم داعش.. وهكذا، بسبب العمى الطائفي صار إرهابيو "داعش" مجاهدين!! كما صار مسلحو النصرة في حلب مجاهدين!!
نعلم يقيناً أن خصوم داعش والنصرة من الحشد الشعبي أو الأنظمة القمعية لا يقلّون سوءا عنهما، وأنهم اقترفوا فظائع ومجازر وانتهاكات رهيبة بحق المواطنين.. لكن هذا يتطلب إدانة العنف نفسه، وإدانة من يمارسه، ورفض المنطق الطائفي الذي يدفعهم للعنف، وإدانة من يورطهم في هذا المستنقع.. بدلا من إدانة طائفة كاملة، وتوجيه العداء الأبدي لها.. ومحاكمتها بجريرة جرائم فئات متطرفة متعصبة حاقدة.. لاسيما وأن التعصب والحقد والعنف يُمارس من الجميع على حد سواء.. فكما يقتل "المتشددون" الشيعة إخوانهم السنّة، يقتل "المتشددون" السنّة إخوانهم الشيعة، والضحايا دوما هم الفقراء والأبرياء.. والأغلبية الساحقة من كلتا الطائفتين ترفض وتستنكر هذه الجرائم .. لكن التضليل الإعلامي (الطائفي) يغطي على هذه الحقائق..
باعتقادي أن الطائفية بدأت بعد أن خطفت "الخمينية" الثورة الشعبية الإيرانية، وحكمت البلاد بمبدأ الولي الفقيه، حينها، بدأت النزعات الطائفية تخرج على السطح شيئا فشيئاً.. في البداية على استحياء، وبعد الاحتلال الأميركي صارت نقطة جذب واصطفاف، أما اليوم فهي في غاية الوقاحة.. وبعد صعود "داعش" أخذ التحريض الطائفي زخما إضافيا طاغيا، لدرجة أن البعض بات مستعداً للتساهل مع جرائمها، وغض الطرف عن نهجها العنيف اللاإنساني مقابل إشفاء غليله.
مشكلة الطوائف الإسلامية أن كل طائفة تؤمن بأن مرجعها الأعلى قد قال الحقيقة الأخيرة النهائية، وهذا يتطلب بالضرورة نبذها للحقيقة الأخرى التي تدعيها الطائفة الأخرى، ما يؤدي إلى تمركزها حول ذاتها والادعاء بأن الله يخصها وحدها ويفضلّها على غيرها.
ثم تنتقل الطائفة للمرحلة التالية، وهي تجسيد الله سبحانه في شخص النبي، فيصبح محمّد أهم من الله لدى البعض، وتغدو الأحاديث الشريفة بديلا عن القرآن، ومع الوقت ينتقل التمركز إلى شخص المرجع الديني، فيصبح ابن تيمية أهم من النبي نفسه، ونفس الصورة تتكرر عند الشيعة؛ إذْ يغدو علي والحسين أهم من الله ونبيّه..
وبموازاة هذا المسار اختفت تدريجيا القسمات الإيمانية والروحية للدين الإسلامي، لتحل محلها النزعات المادية والصراعات القبلية.. وأصبحت الطائفة بديلاً للأمة، وصارت الطائفية هي الدين البديل.. فمثلا نلاحظ أن الخلاف السني/الشيعي بات يتمحور حول شخصيات تاريخية مثل عمر وعائشة ويزيد ومعاوية.. طبعا هذا على مستوى الممارسة العملية التي يغذيها العقل الباطن المتشبع بالفكر الطائفي، بغض النظر عن الطرح النظري الجميل الذي يتشدق به الجميع، فلو كانت عبوديتهم خالصة لله، لما تقاتلوا على ملكيته..
ويغيب عن بال كل طائفي، أنه صار سنياً أو شيعياً أو حتى بوذياً، لأنه وُلد بالصدفة لأبوين من هذه الطائفة أو تلك (يعني بالوراثة).. ومن يدعي أنه صار سُنياً أو شيعياً أو مسيحياً بعقله واجتهاده وتفكيره فهو إنما واهم.. ويخدع نفسه..
صحيح أن إثارة الفتن الطائفية في المنطقة مؤامرة تستهدف إحكام السيطرة عليها؛ لكنّ أهم عناصر نجاحها هو العمل على انفلات المشاعر والغرائز الدينية، واستدراج ردود الفعل الجماعية الغاضبة التي تتجاوز التفكير والمنطق السليم، ثم قيام التنظيمات المتشددة على جانبي الصراع بالتنفيذ، ومن المهم أيضا أن تكون الشعارات جاهزة والمخاوف مشتعلة ومفصَحا عنها، وأن يأخذ السلوك السياسي طريقا يضاعف تلك المخاوف، حتى تعم الكراهية، وتنعدم الثقة بين كل الأطراف.
والحقيقة التي غابت بين طيات التضليل الإعلامي أن الصراع الدائر حاليا في المنطقة هو صراع سياسي بامتياز، توظَّف فيه الطائفية وتدار من قبل النخب السياسية الحاكمة (والمعارضة)، بتوجيهات من القوى الإقليمية والدولية، بهدف تقسيم الأوطان، وإعادة رسم الخرائط السياسية، وتكريس "سايكس بيكو" جديد، ولكن بحلة طائفية، المستفيد الأول منه هو إسرائيل.
فهلا استفقنا قبل أن يعمينا التعصب، وتقتلنا الكراهية.. ونصبح لعنة في سجل التاريخ.