قيل الكثير عن قرار مجلس الأمن رقم 2334 الصادر في يوم الجمعة الماضي الموافق 23 كانون الأول، حيث رحب به البعض واعتبروه انتصاراً تاريخياً مهماً، بينما قلل آخرون منه ورأوا فيه نواقص وإشكاليات، وأنا اتفق مع وجهة النظر الأولى، فهذا القرار الأممي يكتسي أهمية فائقة في التوقيت والمضمون على الرغم من أية ملاحظة على أي ثغرة تضمنها القرار لأسباب عديدة، منها، أنه جاء في وقت حسبت فيه إسرائيل أنها فوق القانون ولا أحد يجرؤ على التصدي لخروقاتها وانتهاكاتها المتكررة للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، خاصة في ظل اشتعال المنطقة بصراعات وأزمات وحروب أهلية وإقليمية ودولية بالوكالة، وفي ظل تعثر مجلس الأمن عن الاضطلاع بدوره في تسوية هذه الصراعات، وبعد أن استبد جنون العظمة بالحكومة الإسرائيلية الحالية التي تمثل أقصى اليمين المتطرف وأكثر حكومات إسرائيل عنصرية وغروراً إلى درجة مجاهرة وزرائها بتحدي المجتمع الدولي والسعي لقتل فكرة حل الدولتين والإعلان عن مشروع استيطاني يهدف فعلاً إلى قطع الطريق على مبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وخاصة القدس الشرقية والمناطق المصنفة (ج) حسب اتفاق "أوسلو"، حيث يجري تهويد هذه المناطق بصورة علنية ومكثفة في تحدٍ واضح للإرادة الدولية ولكل المرجعيات المقرة للعملية السياسية.
وهناك مشكلة أخرى في التوقيت بالنسبة لإسرائيل وهي صدور القرار في اللحظات الأخيرة قبيل دخول من تعول عليه الحكومة الإسرائيلية كثيراً البيت الأبيض، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يستعد للجلوس في مقعد الرئاسة وعد إسرائيل بالكثير بدءاً بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس والتسامح مع البناء الاستيطاني باعتباره لا يشكل مشكلة تعيق التسوية، إلى درجة أن بعض الوزراء في حكومة بنيامين نتنياهو وصفوا فوز ترامب بأنه بداية النهاية لمشروع حل الدولتين. فكيف تفشل إسرائيل وترامب نفسه في ثني إدارة الرئيس باراك أوباما عن توجيه صفعة قوية للسياسة الإسرائيلية وتثبيت بعض المبادئ التي سيكون من الصعب حتى على ترامب تجاوزها، مع أن الأخير يبشر بتغيير الأمم المتحدة بعد توليه لمنصبه. وحتى لو غيرت الولايات المتحدة موقفها فهناك أطراف دولية كالاتحاد الأوروبي ستتعامل مع القرار بجدية، وربما يقود ذلك إلى توسيع نطاق العقوبات ضد المستوطنات بما يشمل الجهات التي تتعامل معها على مستوى العالم أجمع.
وأخيراً لا بد من تسجيل نقطة بالغة الأهمية في مسألة التوقيت وهي صدور قرار مجلس الأمن بعد قرار الجمعية العامة بالاعتراف بدولة فلسطين كدولة غير كاملة العضوية في الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني من العام 2012. وهذا يمنح دولة فلسطين بعداً إقليمياً واضحاً وقاطعاً بعد تحديد مجلس الأمن للحدود الفاصلة بين إسرائيل وفلسطين.
هذا عدا عن فحوى القرار وأهمية المفردات التي تضمنها والذي يعيد الاعتبار لكل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة ويؤكد عليها جميعاً، كما يؤكد على مسؤوليات سلطة الاحتلال على أساس اتفاقية جنيف الرابعة، ويرفض الاعتراف بأي تغييرات أحدثتها إسرائيل في المناطق المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية من بناء استيطاني وتغيير ديمغرافي طالما لا تتم بموافقة الفلسطينيين، واعتبار كل ما تقوم به إسرائيل ليس له أي شرعية قانونية ويعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وعقبة أمام حل الدولتين. والقرار بهذا يحدد بوضوح مرجعية التسوية السياسية وحل الدولتين، ويشكل أرضية مناسبة لأية مفاوضات مستقبلية. ولا يغيب عن البال في هذا السياق الآلية التي وضعها القرار للرقابة على ما تقوم به إسرائيل في الأراضي المحتلة، حيث يطالب بالحصول على تقرير أممي كل ثلاثة شهور، بمعنى أن كل وحدة سكنية جديدة ستبنيها إسرائيل سيبلغ بها المجلس باعتبارها خرقاً إسرائيلياً جديداً يستوجب المعالجة.
الهستيريا التي أصابت حكومة إسرائيل في أعقاب صدور القرار 2334 تعبر عن إدراك السلطات الإسرائيلية لأهمية هذا القرار وما يمكن أن يترتب عليه في المستقبل، وأيضاً لأن إسرائيل ترى في نفسها دولة عظمى من المفروض ألا يجرؤ العالم على التعامل معها باعتبارها دولة خارجة عن القانون، على اعتبار أن العالم المسكين يحتاج إليها بشدة ولا يستغني عن خدماتها في مجال التكنولوجيا و"مكافحة الإرهاب"- على حد تعبير نتنياهو. فكيف تسمح الولايات المتحدة لنفسها والرئيس باراك أوباما بتحدي إسرائيل بتمرير القرار وعدم استخدام حق النقض، وكيف تجرؤ الدول الأربع عشرة الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن على التصويت لصالح القرار. وعليه تقوم حكومة نتنياهو بتوبيخ كل هذه الدول وتفرض عقوبات على الأمم المتحدة وعلى مجموعة من الدول بما فيها السلطة الفلسطينية التي قررت إسرائيل قطع كل الصلات مع ممثليها الرسميين باستثناء التنسيق الأمني. وتخشى إسرائيل من خطوات أخرى تقدم عليها إدارة أوباما في الأيام المتبقية لها مثل خطاب وزير الخارجية جون كيري في مؤتمر باريس أو تمرير قرار آخر في مجلس الأمن حول مرجعية التسوية السياسية.
موقف الحكومة الإسرائيلية يقلق الكثير من الإسرائيليين الذي يرون فيه فقدان توازن وإضرارا شديدا بمكانة إسرائيل ومصالحها، وهو يسرع في وضعها في مصاف دولة ابارتهايد متمردة تماماً كما حصل مع جنوب إفريقيا قبل انتهاء التمييز العنصري. وهو يشكل مناسبة للسلطة الفلسطينية لإعادة دراسة العلاقة مع إسرائيل برمتها، فلا يجوز أن تتعامل إسرائيل بانتقائية مع تطبيق اتفاق "أوسلو" وهذا ينطبق على الانسحاب من مناطق(ج)، وقصر العلاقة على التنسيق الأمني، بل يجب التعامل مع هذا الموضوع كرزمة واحدة: الكل أو لا شيء. وأصلاً لم يتبق من العلاقة مع إسرائيل إلا ما يخدم مصالحها بدرجة أولى.