هيّا نستقرئ مواقف أربعة ساسة كبار، اثنين أميركيين، وواحد إسرائيلي وواحد فلسطيني.
هل نبدأ بأحد أشهر الاستراتيجيين السياسيين الأميركيين، هنري كيسنجر، أم بآخر وزير خارجية أميركي، جون كيري، الذي كان يُعدّ أنجح من تولّى رئاسة لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، بعد وليم فولبرايت، صاحب المنح الدراسية لطلاب دول العالم الثالث؟ أم بعميد من تولّى وزارة الخارجية في إسرائيل، أبا إيبان.. وأخيراً، وزير الخارجية الفلسطينية، رياض المالكي، الذي نصحتُ القرّاء بقراءة تصريحاته إلى جريدة «الأيام» بعد صدور قرار مجلس الأمن!
كيسنجر، الملقّب بداهية عصره، كما كان ميترنيخ داهية عصر سلف، «تباكى» بين اتفاقية الفصل الأول والثاني للقوات في سيناء، لأن هذا الاميركي اليهودي لم تفهمه إسرائيل، وأنه يحاول «إنقاذها من نفسها»، إلى أن فعلها بيغن مع أنور السادات، بفضل الرئيس الأميركي جيمي كارتر في كامب ديفيد 1979، التي «شقلبت» الوضع السياسي السابق بين العرب وإسرائيل!
ما يعنينا كفلسطينيين، أنه «وبّخ» إسرائيل على اتفاقية إعلان المبادئ الفلسطيني ـ الإسرائيلي في أوسلو، وقال: هذا سيؤدي إلى دولة فلسطينية يعارضها .. أظن أنه غاب عن حفلة التوقيع في حديقة البيت الأبيض لهذا السبب، بينما حضر جيمس بيكر، في الصف الثالث، ولفت نظر عرفات لمصافحته، لأنه لم يكن وزيراً للخارجية آنذاك.
حسب صحيفة «إسرائيل اليوم» فإنه بعد قرار مجلس الأمن يراهن كيسنجر على الرئيس الـ45، دونالد ترامب. يقول: هناك احتمال بأن يسجل التاريخ دونالد ترامب رئيساً مهماً جداً». أي كما يراهن عليه نتنياهو ورهطه من اليمين الجديد الإسرائيلي.
غداً تقرؤون تصريحات جون كيري، ورؤيته الشاملة لخطوات تالية لحل القضايا الخمس المزمنة العالقة منذ انتهاء السنوات الخمس الأوسلوية المقررة، والتي فشل كيري في جولة الشهور التسعة في إيجاد مدخل لحلها في نيسان 2014، عندما تنصّل نتنياهو من بند تحرير أسرى ما قبل أوسلو.
على الأغلب، رؤية كيري الموسّعة، في آخر ولايته، لرؤية الرئيس كلينتون المعلنة آخر ولايته لن ترضي إسرائيل، ولكنها لن تقبل رؤية الفلسطينيين لمسائل: القدس، اللاجئين، وهُويّة إسرائيل اليهودية، لكنها ستكون رؤية مسبقة لقرارات مؤتمر باريس الدولي، منتصف الشهر المقبل.
ماذا عن أبا إيبان؟ لقد رحل عن دنيانا، قبل أن تخطّئ الأحداث جملته الشهيرة، بأن العرب والفلسطينيين يهدرون كل فرصة سانحة للحل، فقد وصلت الحلول إلى مرحلة زواج سياسي بين الشرعية الفلسطينية والشرعية الدولية.
الواقع أن إسرائيل هي من أهدر فرصة تفاهم الأردن وإسرائيل على مشروع حل في لندن أواخر السبعينات، يشكل عودة تدريجية للضفة تحت السيادة الأردنية. بيريس حاول، وشمير رفض.
الآن، يطرح إسرائيليون فكرة إحياء تفاهمات لندن ولكن «الذي فات مات» حسب استشهاد كيسنجر بمثل عربي أعجبه (كما أعجبته وصلة رقص شرقية أدتها نجوى فؤاد)!
الواقع، أيضاً، أن إسرائيل اهدرت فرصة توسيع اتفاقية القاهرة لتشمل سيطرة السلطة على مدن الضفة، في وقت كانت السلطة «تحبو»، إدارياً، ومن شأن الانسحاب من معظم الضفة أن تفشل السلطة في إدارتها. لم يكن لها «عظام» إدارية.
الواقع، ثالثاً، أن نتنياهو اهدر الفرصة عندما تنصّل من اتفاقية «واي ريفر» 1999، التي استبدلت اتفاقاً شاملاً على الوضع النهائي، باتفاق على مرحلة ثالثة للانسحاب من 11.1% من الضفة، معظمها صحراء بين مدينة الخليل وغور الأردن، ثم تنصّل منها لاحقاً، كما تنصّل لاحقاً من إطلاق سراح أسرى ما قبل اتفاقية أوسلو.. ومن لقاء أبو مازن في موسكو، وكذا من المؤتمر الدولي التحضيري، وأيضاً من المؤتمر الدولي الموسّع المزمع.
نستعيد تفاهم عرفات مع رابين بوضع سياج على بعد 100 متر من آخر بيوت كل مستوطنة، وحظر توسعها.. لكن اغتيال رابين، بتحريض من نتنياهو، المعارض لأوسلو في تصويت الكنيست عليها، أطلق توسعاً استيطانياً، تعدّى تعهد شارون لبوش الابن بإزالة 40 بؤرة استيطانية أقيمت بعد العام 2000، وفي النتيجة حصل، لقاء انسحابه من غزة، و»الانطواء» في الضفة بإزالة أربع مستوطنات في نطاق جنين، على اعتراف أميركا بأن الكتل الاستيطانية صارت أمراً واقعاً، إلى أن طرأت مشكلة بؤرة «عمونا» ونقلها من ارض خاصة إلى أرض خاصة فلسطينية، وشرعنة بقية البؤر.. وخطط ضمّ الكتل.
إسرائيل الاستيطانية ليست محقّة وليست حكيمة، لأن هناك من يقول فيها: الأهم من الحق اليهودي «الإلهي» هو الحكمة السياسية، أو ما يقوله «التلمود»: «كل شيء يزيد عن حدّه ينقص»، أو ما يقوله مثل عربي: الزائد أخو الناقص، أو المثل العالمي: «من يريد أن يمسك بكل شيء يخسر كل شيء»، لأن حلفاء نتنياهو في «البيت اليهودي» يقولون: «كل يهودا والسامرة هي أرض ـ إسرائيل».
.. وأخيراً، رياض المالكي، وقد كان يكتب في «آراء الأيام» كما ثلاثة أو أربعة وزراء سابقين، يتحدث عن ما بعد القرار في مجلس الأمن من خطوات فلسطينية كأيّ وزير خارجية محنّك يعرف أن الخطابة غير الخطاب، والدبلوماسية تختلف في خطواتها عن السياسة، وهذه عن الاستراتيجية.. وجميعها يجب أن تتوافق مع ميزان المصلحة في كل مرحلة.
إسرائيل قوية في كل شيء، وهي تصدّر بقيمة 100 مليار دولار سنوياً، مقابل مليار دولار للصادرات الفلسطينية، لكن كعب أخيل هو تحديها للشرعية الدولية، وتقديم دعاوى مشروعيتها عليها.. وهكذا، يبدأ ميزان القوى بالاختلال، لأن محصّلته هي السياسة المتوافقة مع الشرعية الدولية، التي تميز بين دولة إسرائيل وبين مشروعها الاحتلالي لأرض دولة فلسطين، التي تنقذ إسرائيل الصهيونية من احتلال يهودي لها!
ما المهن المناسبة لمواليد برج الميزان؟
24 سبتمبر 2023