نقطة ضعف أم نقطة قوة

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

تحاول إسرائيل عن سابق إصرار وتخطيط أن «تساوي» ما بين إسرائيل والاحتلال وما بين إسرائيل والاستيطان، وهي بهذه المحاولة ترى أن لديها نقطة قوة كبيرة في الحقل السياسي على الحلبة الدولية وفي مجمل نشاطها الدبلوماسي، وهي (أي إسرائيل) تأمل بإيجاد صلة «عملية» ما بين معاداة الاستيطان، الاحتلال وما بين «وجود» دولة إسرائيل.
هذا هو بالضبط الموقف الإسرائيلي، وهذه هي بالذات نقطة الارتكاز الأهم في استراتيجيتها الإعلامية والترويجية.
بل وأبعد من ذلك، فإن إسرائيل لا تتورّع عن اعتبار معاداة الاحتلال، وكذلك الاستيطان [كأحد  المنظومات المركزية للاحتلال] هو ضرب من ضروب اللاسامية.
في الإطار «القانوني» فإن إسرائيل كانت وما زالت تعتبر ما يسمى (بالأرض المتنازع عليها) أساساً قوياً لهذا الربط، ولهذه الصلة، وهي ما زالت «تأمل» أن يتم تجاوز الاعتراف العالمي بالدولة الفلسطينية وبأن يتم إعادة خلط أوراق هذه المسألة في عهد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب.
مردّ هذه الهستيريا الإسرائيلية التي أصبحت تتسم بالصبيانية السياسية الهائجة التي شهدناها بعد قرار مجلس الأمن هو ـ في أحد أهم مضامينه ـ الإدراك الإسرائيلي بحجم الضربة التي تم توجيهها لنقطة الارتكاز التي أشير إليها.
إذا جاز لنا أن نسمي وقع هذا القرار على إسرائيل بالركلة أو اللكمة القوية فإن الأمر يقتضي بعض التوضيح:
اللكمة أحدثت الدوار السياسي لدى نتنياهو وأعوانه، والاستفاقة من هذا الدوار ما زالت بطيئة وتحتاج إلى وقت أطول مما بدت عليها الأمور.
في الواقع نقطة الارتكاز التي كانت حكومة اليمين الاستيطاني تراهن عليها كنقطة قوة للموقف الإسرائيلي تحولت فجأة إلى نقطة الضعف الأكبر في هذا الموقف.
إذا اعتبرنا أن التصويت في مجلس الأمن هو بمثابة الرأي القاطع لهذا المجتمع في الهرم السياسي منه فإن تصويت الجمعية العامة على فلسطين كدولة هو بمثابة الإجماع الكبير لهذا المجتمع وبمثابة الاستفتاء الشامل على أن العالم لم يعد يولي لنقطة الارتكاز الإسرائيلية أية أهمية تذكر، وان على إسرائيل أن تتخلى هي نفسها عن هذه الأوهام تماماً كما ان عليها أن تتخلى وبسرعة عن اوهام أخرى وبكل سرعة، وقبل فوات الأوان، وقبل أن «تتفاقم» المسألة وتذهب باتجاهات مرشحة للتحول إلى مقاطعات أكبر وإلى أنواع معيّنة من الردع والعقوبات.
هذا التحول الكبير يلقي علينا مهمات كبيرة على الصعيد السياسي والدبلوماسي، وعلينا تقع مسؤولية استثمار الجو الدولي بما يغلق الباب نهائياً على إسرائيل للعودة إلى «منطق» الأراضي المتنازع عليها، وبما يجعل من حياة إسرائيل (الدبلوماسية والسياسية الدولية) «جحيما سياسيا» بعدما كانت حكومة اليمين الاستيطاني تدّعي وتتبجّح «بالربيع» الإسرائيلي «والاختراقات» الإسرائيلية في افريقيا وغير افريقيا.
الآن جاء دورنا للعمل في هذه النقطة بالذات، أي نقطة الارتكاز الإسرائيلية نفسها.
علينا بعد هذا اليوم أن نعمل بكل جد ومثابرة، وأن نوضّح الفرق بين موقفنا من الاحتلال والاستيطان من جهة وبين موقفنا من إسرائيل كدولة وكشعب، وعلينا أن نوضّح أن علاقتنا ومواقفنا من إسرائيل كدولة وكشعب يعتمد أساساً على موقف الدولة وموقف الشعب من الاحتلال والاستيطان، وانه بقدر ما يفك الشعب الإسرائيلي علاقته بالاحتلال والاستيطان تتهيّأ الظروف للعيش بسلام وأمن وتعاون، وأنه كلما تمسكت الدولة الإسرائيلية بالاحتلال والاستيطان، تبعها الشعب الإسرائيلي بهذا التمسك كلما غامر بالاصطدام الكامل مع العالم ومع كل مؤسساته ومع مليارات من البشر على هذه الأرض.
الواقع أن إسرائيل اليوم تواجه مصير سياستها، وتصطدم بالجدار الذي حاولت تجاهل وجوده، وكابرت وتبجّحت وافترت وأمعنت في إنكار الواقع وتمادت وتطاولت حتى على «أعزّ» حلفائها وأصدقائها وأولياء نعمتها، وهي لذلك تدفع الثمن بصورة مضاعفة لعدة مرات.
المهم أن ننجح نحن ومعنا كل القوى الخيّرة في هذا العالم في كشف هذا الكم الهائل من الخداع والزيف والأكاذيب في السياسة الإسرائيلية، وأن نتمكن من «إقناع» الشارع الإسرائيلي أنهم ضحايا لأوهام غارقة في هلوسات سياسية.
المهم أن يبدأ الناس في إسرائيل باكتشاف ذلك، حيث بات بحكم المؤكد أن هذا المدخل بالذات هو أحد مفاتيح الانفراج، وبات من المؤكد أن ردع إسرائيل داخلياً (إسرائيل الاحتلال والاستيطان والتعصب والعنصرية) لا يقل أهمية عن ردع إسرائيل خارجياً عبر مؤسسات القانون الدولي وعبر سياسات المجتمع الدولي.
معركة حصار إسرائيل العدوانية والتوسعية والعنصرية، الاستيطانية الاحتلالية خارجياً إذا ترافقت مع الردع الداخلي الناتجة عن انكشاف الواقع أمام المجتمع الإسرائيلي، وعن حركة أو حراك هذا المجتمع باتجاهات جديدة مغايرة نسبياً للسياسة القائمة فيها، فإن اليمين الاستيطاني مرشح إما للهزيمة أو المقامرة بكل شيء، وفي الحالتين فلسطين ستعزّز انتصارها.
فلسطين حقيقة سياسية دولية على خارطة العالم، وهذه هي الحقيقة الأهم التي يحاول اليمين الإسرائيلي إخفاءها عن الشعب الإسرائيلي، وهذه هي الحقيقة الأهم التي يوفّر الاعتراف بها فرصاً للعيش المشترك، ولا يوجد أية فرص لإسرائيل للعيش بسلام بدون الاعتراف الواضح والنهائي بها.
ضاقت على نتنياهو هوامش المناورة، وفقد اليمين الاستيطاني قدرته على المبادرة إلاّ نحو المزيد من التدهور، أما المناورة فقد أصبحت متعذّرة.
قبل عدة أسابيع فقط سادت حالة من اليأس والقنوط بين أوساطنا ومن بعضنا أيضاً، لكن فسحة الأمل أكبر اليوم لأننا كنا محامين جيدين عن قضية هي أصلاً عادلة ويجب أن تظل كذلك دائماً.
أزمة إسرائيل هي الاحتلال والاستيطان وهي أزمة دائمة ما دام الاحتلال قائماً، أما المأزق الفلسطيني فهو مأزق مؤقت بزمن قدرتنا على تحويل هذا الاحتلال إلى مستحيل سياسي على إسرائيل.