مصر والفلسطينيين وترامب

thumbgen (40)
حجم الخط

: قبل أقل من شهر من مغادرته البيت الأبيض فى نهاية فترة حكمه الثانية، وجه الرئيس الأمريكى أوباما صفعة قوية لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، عندما امتنعت الولايات المتحدة ربما للمرة الأولى عن استخدام حق الفيتو ضد مشروع قرار تاريخى صدر بإجماع مجلس الأمن، يدين بشدة استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة والقدس الشرقية باعتباره عملاً غير قانونى يشكل عقبة كبرى ضد فرص قيام دولة فلسطينية إلى جوار دولة إسرائيل.

وكانت دول نيوزيلندا والسنغال وأوكرانيا قد تقدمت بمشروع القرار بعد أن سحبت مصر مشروع قرار مماثلاً استجابة لطلب من الرئيس الجمهورى دونالد ترامب، الذى وعد فى اتصال تليفونى مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، أن تنشط الإدارة الجديدة فى إقرار تسوية نهائية للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، لكن سحب مصر لمشروع قرارها لم يمنعها من أن تكون أول المؤيدين للقرار الجديد الذى وافقت عليه 14دولة، هم الأعضاء الدائمون وغير الدائمين فى مجلس الأمن مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت.

وبرغم إعلان الرئيس الجمهورى ترامب عزمه على إعادة النظر فى الموضوع برمته فور استلامه لمهامه فى 20 يناير المقبل، بدعوى أن القرار يضر بعملية السلام ويزيد من صعوبة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، شن رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو حملة شعواء على الرئيس الأمريكى أوباما، يتهمه بمعاداة إسرائيل والتآمر على أمنها، رغم كل ما فعله أوباما لإسرائيل، وأن موافقته على القرار عار وعمل معيب، ويتوعده بأن يدفع ثمناً غالياً لخروجه عن اتفاق مشترك، يلزم واشنطن استخدام حق الفيتو لرفض كافة القرارات التى تصدر ضد إسرائيل تتعلق بالتسوية النهائية للصراع الإسرائيلى الفلسطينى تصدر عن مجلس الأمن، باعتبار أن مجلس الأمن ليس المكان الصحيح لتسوية القضية الفلسطينية، بينما تؤكد إدارة أوباما أن التوسع الشديد فى بناء المستوطنات فى الضفة الغربية والقدس الشرقية هو الذى ألزم الولايات المتحدة عدم استخدام الفيتو الذى استخدمته واشنطن أكثر من ثلاثين مرة لحماية إسرائيل من قرارات المنظمة الدولية، ولم تستطع استخدامه هذه المرة، لأن خطط بنيامين نتنياهو استهدفت إفشال حل الدولتين بعد أن بلغ عدد المستوطنات150 مستوطنة، تضم 400 ألف مستوطن فى الضفة و200 ألف مستوطن فى القدس الشرقية، إضافة إلى 100 نقطة استيطان غير قانونية أقيمت فوق أراض تملكها أسر فلسطينية تم طردها، تحاول إسرائيل الآن إسباغ نوع من الشرعية على وجودها رغم اعتراض المحكمة الإسرائيلية العليا.

وما من شك أن أوباما اتخذ القرار الصحيح، ورد لمنصب الرئيس الأمريكى بعض الاعتبار، لأن بنيامين نتنياهو على امتداد فترتى حكم أوباما لم يدخر فرصة لكسر إرادة الرئيس الأمريكى، وإرغامه على التراجع عن أى خطوة تساعد على حلحلة أزمة الشرق الأوسط، والتهوين من شأنه بل وتهديده وإفشال مجمل سياساته فى الشرق الأوسط، لكن تبقى خطوة أوباما مجرد صفعة انتقامية وجهها فى اللحظة الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلى، يصعب حساب نتائجها العملية على قضية الصراع العربى الإسرائيلى، خاصة أن الرئيس الجمهورى الجديد ينحاز بشدة إلى اليمين الإسرائيلى المتطرف، وقد وعد علانية بإحداث تغيير شامل فى موقف أمريكا وقرار أوباما فور توليه السلطة، وعين سفيراً له فى إسرائيل أحد المحامين اليهود المتحمسين لعملية استيطان الضفة والقدس، الذين ينادون بحق إسرائيل فى ضم الكتل الاستيطانية الكبرى إلى أرضها، ويتمنى السفير الإسرائيلى الجديد فى واشنطن علناً لو نجح فى أن ينقل سفارة أمريكا إلى القدس بدلاً من تل أبيب، وهو مطلب يتعاطف معه بصورة علنية دونالد ترامب.

كما يساند سياسات ترامب عدد من أعضاء الكونجرس ويرفضون قرار مجلس الأمن الجديد، بدعوى أنه يمثل عدواناً على إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط، ويطالبون بقطع تمويل الولايات المتحدة للأمم المتحدة إن لم يرضخ مجلس الأمن لمطلب إسرائيل ويسارع بإلغاء قراره الأخير كما ألغى سابقاً قراره باعتبار الصهيونية حركة عنصرية بعد 20عاماً من صدوره عام 1975، بينما يتصرف رئيس الورزاء الإسرائيلى نتنياهو برعونة شديدة، يصب جام غضبه على الدول الثلاث التى قدمت مشروع القرار (نيوزلندا والسنغال وأوكرانيا) ويسرف فى قرارات عقاب هذه الدول، ويمتنع عن تمويل خمس وكالات تابعة للأمم المتحدة، متجاهلاً أن القرار حظى بموافقة إجماعية من كل أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين باستثناء واشنطن التى امتنعت عن التصويت.

أعلن بنيامين نتنياهو أن إسرائيل لن تنفذ هذا القرار وتعتبره غير قائم وغير موجود، متعجلاً وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لتصحيح هذا الوضع الذى جلب العار على إدارة أوباما، ولا يعرف بعد ما الذى يمكن أن يفعله ترامب لإلزام كل أعضاء مجلس الأمن وبينهم الأعضاء الأربعة الدائمون، العودة عن القرار، أو الموافقة على قرار جديد يلغى القرار الأول دون أن يكون ذلك جزءاً من صفقة متكاملة، تستهدف تسوية كل عناصر الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، بما فى ذلك القدس والمستوطنات وحدود الدولة الفلسطينية الجديدة، ويزيد من صعوبة الأزمة تفكك الموقف العربى وانقسام الموقف الفلسطينى وغياب الحد الأدنى من التوافق الدولى على عناصر التسوية ومرجعياتها الأساسية، فضلاً عن تشبث اليمين الإسرائيلى المتطرف بضم كل المستوطنات الإسرائيلية، سواء التى أقيمت قهراً بقوة الجيش الإسرائيلى على أراضى الدولة الفلسطينية أو التى أقيمت قهراً بقوة الجيش الإسرائيلى على أراضى أسر فلسطينية تم طردها من أراضيها!

وربما يدخل ضمن خطط ترامب أن مصر يمكن أن تكون المدخل الصحيح لأية تسوية محتملة للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، خاصة أن غالبية الفلسطينيين بمن فى ذلك السلطة الوطنية تثق فى نزاهة الموقف المصرى ولا تسىء تفسيره، بما فى ذلك قرار مصر الأخير سحب مشروعها ضد الاستيطان، الذى اعتبره صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، مجرد خلاف فى التوقيت، حرصاً على علاقات المنظمة مع مصر، لأن مصر كانت حريصة دائماً على مصالح الفلسطينيين، تنتصر لضرورة قيام دولة فلسطينية تقع على الأراضى التى احتلتها إسرائيل عام 67 عاصمتها القدس الشرقية، وربما تستطيع مصر أن تساعد أو تقدم بعض الضمانات أو تحاول تقريب بعض وجهات النظر، لكن مصر لا يمكن أن تكون بديلاً عن المفاوض الفلسطينى، تتحدث باسمه أو نيابة عنه أو ترفض أو تقبل بدلاً منه، ومن المؤكد أيضاً أن مصر لا يمكن أن تقبل تسوية مؤقتة أو جزئية أو مرحلية لأن انحيازها الواضح لتسوية شاملة عادلة تلتزم مرجعياتها الصحيحة أساسها القاعدة الأصلية التى وافق عليها كل العرب وهم يبحثون أمر المبادرة العربية (كل الأرض مقابل كل السلام)، هذه هى ثوابت الموقف المصرى التى لا تقبل التغيير ولا تقبل الرهان على مواقف الآخرين بمن فى ذلك الرئيس الأمريكى ترامب، معيارها الصحيح نقبل ما يقبل به غالبية الفلسطينيين ونرفض ما يرفضه غالبية الفلسطينيين، الذين ينبغى أن يكون لهم القول الفصل فى قضايا الاستيطان والقدس والحدود.

وليكن واضحاً أننا لا نريد من إدارة ترامب شيئاً أكثر من أن تكون جادة فى حربها على الإرهاب، ولا نستطيع أن نقدم لها أى شىء آخر يتعلق بحقوق الآخرين أكثر من إصرارنا على هزيمة الإرهاب واجتثاثه، وعندما تلزمنا الظروف بخيار واضح محدد فان علينا أن نختار الفلسطينيين، وليس ترامب أو نتنياهو.

عن الوطن المصرية