هذه مرة نادرة جداً يستأسد فيها وزير الخارجية الأميركي جون كيري على السياسة الإسرائيلية المتغطرسة ومشروعها الاستيطاني الإحلالي، وهي سابقة مرتبطة بسابقة أخرى تتصل بقرار مجلس الأمن 2334 الذي يشجب الاستيطان الإسرائيلي بموافقة أميركية ضمنية.
كيري قدم رؤيته لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بالتأكيد في خطابه الطويل، على موقف الإدارة الأميركية من حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967، ورفضها للاستيطان الإسرائيلي الذي قال عنه كيري إنه يهدد حل الدولتين ويجعله في خطر، ويسمح بإدامة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.
لم يكن وزير الخارجية الأميركي ليقدم هذا الخطاب القوي لولا أن الإدارة الأميركية التي يترأسها باراك أوباما سترحل في القريب العاجل، أضف إلى ذلك أن كيري أو أوباما كلاهما ضاقا ذرعاً بالأسلوب الاستفزازي الاستعلائي الإسرائيلي الذي مارسه بنيامين نتنياهو عليهما طيلة وجودهما في السلطة.
إدارة أوباما كانت على استحياء شديد تنتقد الاستيطان الإسرائيلي وسياسة تهويد القدس، وكان كلما يطير الوزير كيري للقاء نتنياهو في تل أبيب، يخرج عن الأخيرة قرار يجيز تسمين المستوطنات وبناء وحدات جديدة وأوامر هدم لمنازل فلسطينيين وسرقة أراضيهم بالقوة.
ما الذي دفع الإدارة الأميركية لتوجيه استدارة بزاوية صغيرة تجاه الحقوق الفلسطينية المشروعة؟ هناك العديد من العوامل التي أدت إلى امتناع الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض "الفيتو" ضد قرار مجلس الأمن بشأن الاستيطان الإسرائيلي.
أولاً: سيرحل أوباما وكيري عن المشهد السياسي الرسمي الأميركي، وفي هذا ربما مناورة تستهدف رد الاعتبار الشخصي عن وقاحات نتنياهو، يضاف إلى ذلك ثانياً: أن الإدارة الأميركية باتت تدرك أن مضي نتنياهو في الاستيطان سيعني غياب مشروع حل الدولتين.
وكأن الإدارة الأميركية الحالية تحررت هذه المرة من قيود الضاغطين في اللوبيات الصهيونية وغيرها، لأنها ربما مقتنعة بأن حماية إسرائيل وتقديم الدعم المادي والعسكري شيء، وإطالة تقديم المظلة الإسنادية وخلق مبررات تجيز لإسرائيل مواصلة استيطانها شيء آخر.
ثالثاً: انطلاقاً من ذلك ربما يريد أوباما إحراج الرئيس المنتخب دونالد ترامب، الذي أعلن تحيزه الكامل لإسرائيل وسياساتها، وأطلق وعوداً بشأن نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، بل اعتبر الأمم المتحدة مجرد ناد لإضاعة الوقت.
يقصد من ذلك أن هناك اختلافا جوهريا في السياسة بين آراء ترامب ونظيره أوباما، وقد يكون الأخير صرّح عن موقفه تجاه المستوطنات وحل الدولتين، حتى يحرج إدارة ترامب في المستقبل، خصوصاً وأن الولايات المتحدة ليست اللاعب الوحيد على الساحة الدولية.
إن إسرائيل تشعر يوماً بعد يوم بالعزلة، وهذا أمر بات واضحاً نتيجة لسياساتها العنصرية التوسعية، غير أن قرار مجلس الأمن 2334 وسابقة كيري في التكشير عن أنيابه، كلها تخدم مواقف الدول الأوروبية وغير الأوروبية تجاه إسرائيل وسياساتها.
كيري قدّم طرف الحبل للدول التي تتطلع للتوسط بشأن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفرنسا التي رحبت بتصريحات كيري وصفّقت لها، ماضية في عقد مؤتمر للسلام منتصف شهر يناير من العام الجديد بمشاركة حوالي 70 دولة.
تصريحات كيري ستجعل العديد من الدول تجرؤ علناً على انتقاد السياسة الإسرائيلية، خاصةً وأن دولا حليفة لإسرائيل مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا صوتت في مجلس الأمن على قرار بشأن الاستيطان الإسرائيلي، وهي تدرك أن غربال الحماية سيكشف أولاً عن آخر عورة إسرائيل.
غير أن من يذهب إلى اعتبار أن موقفي أوباما وكيري هو بداية التغير الأميركي تجاه إسرائيل فهو مخطئ، لأن الخط الثابت للسياسة الأميركية يقوم على حماية إسرائيل وضمان تفوقها في منطقة الشرق الأوسط، وهذه حقيقة لا يمكن التغاضي عنها.
أيضاً يمكن القول إن الدول الغربية تدعم إسرائيل بقوة ولن تتخلى عنها، لكن هذه الدول وعلى رأسها فرنسا التي يسكنها بين 400 ألف إلى نصف مليون يهودي فرنسي، ترى أن خيار حل الدولتين جيد ويحقق مصلحة لها ضمن اعتبارين مهمين.
الاعتبار الأول أن الدول الغربية لم تعد متحمسة لوجود مناطق متوترة من شأنها أن تشكل منبتاً للتطرف وتفريخاً لمتطرفين قد ينتقلون إلى أراضيها، والنزاع السوري شاهد على تمكين تنظيم "داعش" الإرهابي داخل الأراضي السورية، ومنها انطلاقه للقيام بعمليات تخريبية في عدد من الدول الغربية.
فرنسا وغيرها من الدول تعتقد أن منع قيام الدولة الفلسطينية قد يؤدي إلى عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي قد ينعكس على الدول الغربية، وإلى جانب هذا الاعتبار فإن فرنسا متخوفة من فكرة وجود دولة يهودية عنصرية تلغي حق الشعب الفلسطيني، ما يفتح على إمكانية عودة يهود فرنسا من تل أبيب إلى باريس، والتوغل في عصب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفرنسي.
ما فعله كيري هو محاولة لدفع الدول الغربية نحو زيادة التحمس في ضبط السيطرة على السياسة العنصرية الإسرائيلية خصوصاً في موضوع الدولة الفلسطينية وفي القلب منه كبح جماح الاستيطان، للسماح بترجمة خيار حل الدولتين على الأرض.
بصرف النظر عن توقيت تصريحات كيري، إلا أنها نعم تصريحات مهمة جداً وتفتح آفاقاً لتوسيع نطاق الاشتباك السياسي مع إسرائيل التي لا تقبل النقد وتعتبر نفسها فوق القانون، وهذا تجسد بتخبط نتنياهو وما يسمى إعادة ضبط العلاقة مع الأمم المتحدة.
نتنياهو رد على كيري بالقول إن بلاده ترفض تلقي الدروس من قادة أجانب، ويبدو أنه سيمضي في تكريس الاستيطان، ومعه تسويق استحالة قيام دولة فلسطينية بالأمر الواقع، واقع وجود المستوطنات، وبالتالي ينتظر رئيس الحكومة الإسرائيلية دونالد ترامب بفارغ الصبر.
أكثر ما يهم نتنياهو هو الشأن الداخلي، فهذا هو الذي يضمن وجوده في السلطة، ويعتقد الرجل أن بإمكانه المناورة في موضوع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي حتى ينسف موضوع حل الدولتين، ولذلك ينبغي الحذر تماماً من الأفخاخ التي تنصبها إسرائيل للفلسطينيين.
وعليه أيضاً من المهم استثمار الظرف الدولي الحالي وتحشيده لصالح القضية الفلسطينية، ما يستدعي إعادة النظر الجدي بالعلاقات الفلسطينية الداخلية، ويستدعي أيضاً تبريد العلاقات الفلسطينية- العربية على خلفية موقف الرباعية العربية من الشأن الفلسطيني الداخلي.