تلقت دولة الاحتلال قرار مجلس الأمن الأخير المؤكد على لا شرعيته ولا شرعية التصرف بالأرض، وبالقدس، كونهما تحت الاحتلال، تلقته بدرجة قصويية من الانفعال والغضب وردة الفعل والتهديد.
بمقاييس دولة الاحتلال فهذا أمر مفهوم ومتوقع،
فالقرار أولاً وقبل أي شيء، يضرب في عمق الأساس الفكري والسياسي الصهيوني الاحتلالي الذي تجتمع عليه أغلبية مجتمع دولة الاحتلال الساحقة وقواها الحزبية والمجتمعية، ويقوم على أساسه ائتلافهم الحاكم بكل مكوناته الحزبية، وهو الفكر التوراتي السياسي الذي يؤكد حقهم الإلهي بكل ارض فلسطين التاريخية كوعد رباني مطلق لهم بما يعطيهم الحق بسكناها وعمرانها والتصرف بها بحرية لا تحتمل التساؤل ولا تقبل الاعتراض أو التحديد، وبدون الالتفات إلى أي حقوق او وجود لغيرهم عليها.
والقرار يزيد "طينهم بلّة " حين يربط بشكل متين رفضه وإدانته للاستيطان مع رفضه وإدانته للتصرف في الأرض عموماً، وبالذات مع رفضه وإدانته لللاستيطان والتصرف بالقدس.
والقرار يعيد فتح باب حل الدولتين كما يتبناه المجتمع الدولي وقيام الدولة الفلسطينية، وهو باب حسموا أمرهم نهائياً تجاهه وأغلقوه بالضبة والمفتاح.
والقرار فوق ذلك يضرب حالة "الاستثناء" التي تمتعت بها دولة الاحتلال وتعودت عليها في تعامل المجتمع الدولي والإقليمي معها. (الكاتب المثقف حسن خضر شرح حالة الاستثناء هذه بشكل واف وجميل في مقال قبل بضعة أيام.)
المرجح، ان يكون وراء هذا التصعيد والتهديد هدف الهروب من مأزق داخلي متوقع، واستنفار متعمد للجبهة الداخلية لأخذها موحدة إلى مواجهة القرار استباقاً لاحتمالات بروز خلافات بين مكوناتها في رؤية مسببات القرار والمسؤولية عنه.
وقد برزت فعلا أصوات عديدة سياسية وإعلامية، حمّلت المسؤولية عن هذه الهزيمة لرئيس الوزراء وائتلافه الحاكم والسياسات التي اتبعوها. وخصّوا من بين تلك السياسات:
سياسات الاستيطان المنفلتة والمستفزة في السنوات الأخيرة، وبالذات "كسر الجرة" مؤخراً بإصدار القانون الذي يشرعن أربعة آلاف بؤرة عشوائية ويفتح الباب أمام بؤر عشوائية جديدة، ثم سياسات التعامل مع الإدارة الأميركية بشكل متعجرف ومستفز ومناور ومتدخل في شؤونها الداخلية.
أما الهجمة العنترية على العالم بمعظم دوله فلا تفرق بين دول كبرى عضوة دائمة في مجلس الأمن ودول ضعيفة مثل السنغال او أوكرانيا، فهي في الغالب هجمة استعراضية خاوية المضمون وضعيفة القدرة على التأثير المؤذي.
دولة الاحتلال، تقوم بهذه الهجمة على العالم، من منطق أن القرار صدر بإجماع المجتمع الدولي ودوله الكبرى، من صوّت منهم بالموافقة في مجلس الأمن ومن أعلن موافقته من خارج عضوية مجلس الأمن( ألمانيا مثلا). تصويت أميركا بالامتناع كان أقوى تصويت بالموافقة.
دولة الاحتلال تحاول أن "تضبع" العالم والأمم المتحدة وهيئاتها حتى لا يتحول القرار إلى سابقة تستمر وتتواصل في قرارات مماثلة: إنْ في مجلس الأمن نفسه وإنْ في الجمعية العمومية او محكمة الجنايات الدولية او الهيئات والمنظمات الدولية الأخرى.
وربما، تقوم بالهجمة استباقاً لأية محاولات لرفع القرار نفسه الى البند السابع في ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطيه قوة الإجراء العملي حتى العسكري، لمعرفتها أن القرار بوضعه الحالي لم يعد ممكناً إلغاؤه.
القرار يسجل إنجازاً هاماً للنضال السياسي الفلسطيني، وللدبلوماسية الفلسطينية التي عملت لصدوره بحرفية وبتخطيط واسع الأفق ومرن في نفس الوقت. وقام الإنجاز على قاعدة عدالة المطلب وأولويته في مسار نضال الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه وثوابته الوطنية، وأيضاً على قاعدة ان النضال السياسي والدبلوماسي هو شكل للمقاومة يتكامل مع أشكالها الأُخرى.
صحيح أن القرار كما صدر لا يحمل إجراءات عملية محددة كالعقوبات، لكن يمكن الاطمئنان انه يؤسس لمرحلة جديدة في مواجهة دولة الاحتلال على المستوى الدولي وبالذات ضد الاستيطان وضد الاحتلال بشرط واجب التحقق، ان يلعب الفلسطينيون أوراقهم بكفاءة.
وأول هذه الأوراق وحدة البرمجة والتخطيط، وتوسيع دائرتهما لتشمل إلى جانب القوى السياسية والمؤسسات الرسمية أوسع مشاركة لقوى المجتمع المدني والكفاءات النضالية والسياسية والأكاديمية، وان تقوم على قاعدة متينة من وحدة الموقف الوطني الفلسطيني وأدواته وتعبيراته المختلفة، مع الإدراك اليقيني أن دولة الاحتلال ستواجه الإنجاز الفلسطيني وكل ما يُبنى عليه بشراسة وعدوانية استثنائيين، خصوصا في مجال التغوّل المفرط بالاستيطان في كل المناطق وبالذات في القدس مترافقاً مع إجراءات تغييرية تطال فيها الأرض والمواقع والسكان، وفي مجال رفع وتيرة القمع والتضييق إلى آفاق عليا في كافة المجالات وبكل الوسائل.
ان القرار، بما قدمه من إدانات شديدة الأهمية والوضوح لدولة الاحتلال، يشرّع أمام النضال السياسي والدبلوماسي الفلسطيني ابواب العمل الدولي بكافة وسائله من محكمة الجنايات الدولية، الى محكمة العدل العليا الى الجمعية العمومية، الى حقوق الإنسان الى...
أول محطات هذا النضال ستكون المؤتمر الدولي الذي تدعو له فرنسا في منتصف الشهر القادم. فالقرار يعطيه دفعة قوية ومقومات هامة للنجاح، بالذات مع التغير في الموقف الأميركي وبعد الخطاب المطول الأخير للوزير كيري. والمأمول ان يخرج عن هذا المؤتمر تحرك دولي بآلية محددة يقوم على الشرعية الدولية وقراراتها، متحررا من الاحتكار والهيمنة الأميركيتين.
كما يوسّع القرار، الأبواب والآفاق أمام حملة المقاطعة الدولية لدولة الاحتلال ( بي دي إس ). وهي الحملة التي تشكل صداعا لدولة الاحتلال وتحكم طوق العزلة الشعبية الدولية حولها في مجالات حيوية متعددة وتوقع بها خسائر حقيقية بالذات في مجال الاقتصاد، ولدرجة خصصت دولة الاحتلال لمواجهتها موازنة من 26 مليون دولار.
القرار يؤسس لمرحلة جديدة في مواجهة دولة الاحتلال، يجب أن نكون "على قدّها" وعلى قدر مسؤوليتها.
ابتكار طبي رائد.. نجاح أول عملية زرع قلب جزئي في العالم
04 يناير 2024