عندما انطلقت فتح، اعتبرت أن المرحلة التاريخية التي تمر بها القضية الفلسطينية هي مرحلة تحرر وطني، وبالتالي فهي تتطلب حركة وطنية لا حزبا طبقيا، أو دينيا، وأن الشعب الذي فقد أرضه وهامَ على وجهه في الشتات، فقدَ بذلك جزءًا من كينونته وإنسانيته، وأصبح الهم الوطني هو همّه الشخصي والأكبر، وحتى يسترد إنسانيته وكرامته، ويبني كيانه.. لا بد له من النضال في سبيل التحرير والعودة، فجاءت فتح لتقوده في نضاله ولتعبّر عنه.
عملت فتح على توحيد الصف الفلسطيني، واستنهاض كل الطاقات العربية، وظلت بوصلتها تُشـير دوما نحو فلسطين، ونأَتْ بنفسها عن الأحلاف والتكتلات الإقليمية، واعتبرت أن الكفاح المسلح أداة رئيسة في المعركة الوطنية، ومارسته بالفعل بشجاعةٍ ونُبل، ولم تضع يديها في أغلال الأيديولوجيات والمنطلقات الحزبية الضيقة، وأذابت التناقضات الثانوية وصهرتها في بوتقة الكل الوطني في مواجهة التناقض الرئيس مع العدو، وخطّت لنفسها نهجاً سياسيا واقعيا دون تخاذل أو مهادنة، ودون أن تقع أسيرة الشعارات الكبيرة، وآمنت بالجماهير، واعتبرتها خزانها الحيوي، وبقدر ما حمَت ديمقراطية غابة البنادق، فقد حمَت وصانت الوحدة الوطنية، وأصرّت على استقلالية القرار الوطني، بعد أن حررته من الهيمنة والتبعية للأنظمة الرسمية، بنفس القدر الذي جعلت فيه من القضية جزءًا من الهم القومي العربي، وجزءًا من النضال الإنساني العادل في مواجهة قوى الشر والطغيان.
وقدمت فتح خيرة شبابها وكوادرها وقادتها على مذبح الحرية والاستقلال، في ساحات المعارك وفي المعتقلات، وسال دمها كشلال متدفق ليروي أرض فلسطين، وبنَت صورةً أخلاقية للنضال الفلسطيني استحقت احترام شعوب العالم وتقديرهم، وصارت في مقدمة حركات التحرر للشعوب المقهورة، وانتزعت اعترافا عالميا بحقوق الشعب الوطنية بعد أن كاد ينتهي ويذوب في زحمة النظام العالمي الذي يسحق الضعفاء ولا يأبهُ للمظلومين، فصحّحت مسار التاريخ نحو الحق الفلسطيني، بأن حوّلت الشعب من جموع لاجئين إلى شعب حر مقاتل، وحولت القضية الفلسطينية من قضية إنسانية ومسألة إعانات إلى قضية سياسية من الدرجة الأولى، وجعلت منظمة التحرير الفلسطينية الرقم الصعب في المعادلة السياسية الكونية، وثبّتت الوجود الفلسطيني على الخارطة السياسية، وتوجهت للعالم بلغة يفهمها، من خلال خطاب سياسي واقعي ومطالب قابلة للتنفيذ.
ومنذ البداية أدركت أن إسرائيل حجر الزاوية في المعادلة السياسية الدولية القائمة منذ سايكس بيكو، والمحمية من القوى العظمى، وأن ضرب هذه المعادلة يحتاج إلى تحالف دولي، فناضلت لإبراز الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، وتثبيتها في الساحة الدولية، وفضحت الطبيعة العنصرية للصهيونية والدور الوظيفي للكيان الإسرائيلي، وحرمت المشروع الإمبريالي الصهيوني من ميزة الاستقرار وحالت دون توسعه.
هذه فتح التي نعرفها.. وهذه منطلقاتها ومنجزاتها.. ولكن هل فتح اليوم هي نفس فتح الانطلاقة وزمن الفدائيين؟؟ الإجابة هي لا.. ولكن، هل التغييرات التي عصفت بفتح كلها سلبية؟ هل كانت استجابة للظروف المحيطة وتكيفا مع المتغيرات؟ هل كانت نتيجة ضغوط خارجية أم نتيجة عوامل ذاتية؟
تقريبا كل الظروف الموضوعية التي أحاطت بفتح عند انطلاقتها تغيرت الآن: الوضع السياسي، بنية النظام الدولي، الخارطة السياسية للإقليم، موازين القوى، مفاهيم الصراع.. وتغيرت أيضا الظروف الذاتية، فلسطينيا وعربيا.. ومن غير المعقول لأية حركة سياسية وسط هذه المتغيرات الجذرية أن تظل جامدة وراسخة كما هي.. من الطبيعي أن تطور فتح خطابها السياسي، وأن تكيّف برنامجها الكفاحي بما يتلاءم مع المستجدات، لاسيما وأنها تعرضت لضغوط غير عادية..
اختلف البرنامج والخط السياسي إلى حد كبير، بل وجذري، الهدف الأول كان تحرير كل فلسطين، صار فيما بعد إقامة دولة فلسطينية، لكن فتح لا ترى هذا التغير إلا محطة نحو الهدف الكبير.. اختلفت الأدوات والوسائل، الكفاح المسلح لم يعد ممكنا، استبدل بالمقاومة الشعبية والانتفاضات.. المفاوضات (بحد ذاتها) كانت وظلت أداة كفاحية.. لأن نتيجة أي كفاح سياسي لا بد أن تتوج بالمفاوضات.. الفرق صار في طريقة المفاوضات وعقلية المتفاوضين، وآفاقها الممكنة.
كل هذه التغيرات، رغم خطورتها وأهميتها، إلا أنه يمكن تفهم بعضها.. لكن، علينا أن نعترف بأن كثيرا من التغييرات التي أصابت فتح، لم تكن كلها نتيجة ضغوط وتأثيرات خارجية، بعضها كان نتيجة ترهل وضعف وتراجع داخلي.. ونتيجة غياب الرؤية الواضحة، وعدم وجود إستراتيجية، ونتيجة أزمة في القيادة، ووهن، وتكلس في البنية التنظيمية، وغياب نهج التجديد المستمر في الهياكل والأطر الفتحاوية.
كانت فتح إطارا جامعا ليس للقوى الفلسطينية وحسب، بل وللعربية أيضا، وحتى العالمية.. كانت تضم كبار القادة والمفكرين.. ومختلف التيارات السياسية والفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. كانت طيفا سياسيا متنوعا يتصارع ويتلاقح ويتلاقى ويختلف فيه الجميع دون أن يطغى أحد على الآخر.. كانت تستوعب المعارضين والمشاغبين والمجددين والتقليديين.. مثلت نموذجا رياديا في الديمقراطية الثورية.. اليوم، تكاد تختفي هذه الروح، بعد أن سيطرت عليها عقلية الحزب الحاكم، والنهج الفرداني.. وهذه خسارة فادحة.
رغم كل التراجعات والإخفاقات والأخطاء الكبيرة، ورغم تراجع شعبيتها، ومكانتها الريادية؛ إلا أن فتح ما زالت الفصيل الأكبر والأهم على الساحة الفلسطينية.. وبقيت الإطار السياسي والفكري القادر على استيعاب متطلبات مرحلة التحرر الوطني.. وقد أثبت مسار الأحداث أنه كلما ضعفت فتح، ضعفت الحالة الشعبية، ومعها بقية الفصائل، وتراجعت القضية الفلسطينية.. وكلما كانت قوية، قويت منظمة التحرير، وتقدمت الحالة الشعبية، والسياسية، والوطنية، وعادت القضية إلى مكانتها الطليعية في دائرة الاهتمام العالمي.
صحيح أن المؤتمر السابع لم يكن بحجم التوقعات والأماني.. إلا أنه أعطانا بارقة أمل.. بيد أن الرهان الحقيقي والآمال الكبرى معقودة على حيوية شعبنا وروحه الكفاحية، القادرة على الاستنهاض وفرض التجديد، وبث الروح الثورية في فتح، وفي كل القوى الأخرى.. فهذا الشعب رغم أنه لم ينتصر حتى الآن.. إلا أنه لم يُهزم..