عاتبني أحدهم لأنني لم أكتب كعادتي عن مأساة اللغة العربية في عصرنا الراهن، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، في الثامن عشر من كانون الأول من كل عام، وفق قرار الأمم المتحدة عام 1973 قلت: إن لغتنا العربية الجميلة غدتْ، للأسف، هدفا للسخرية عند أهلها، وسدنتها، فمن يُجازف بنطقِ جملة عربية مشكولة مضبوطة، في غير قوالب الخطابة التقليدية، الدينية، والتراثية، فإنه يستثير الباسمين، ليس تقديرا لما سمعوا، بل سخرية واستهزاء!
إن الأقوام التي لا تعتزُّ بلغتها، وتتجنب الحديث بها، أقوامٌ مريضة، بمتلازمة النقص، نقص الثقة بالنفس.
أشار العلاَّمةُ، ابنُ خلدون، إلى شغَفِ المغلوب بتقليد الغالب حين قال في الفصل الثالث والعشرين من مقدمة (ابن خلدون):
«المغلوبُ مولَعٌ بتقليد الغالب، في سائر أحواله».
لم نكْتَفِ بملءِ لغتنا (بسوس) العامية، بل حشوناها بألفاظ أجنبية، وصار مَن ينطقون بها، مستحثاتٍ أثرية، وصار أطفالنا يرضعون المفردات الأجنبية من وسائط الاتصال، ويُفضلونها على لغتهم، ويقرنون اللغات الأجنبية بالحضارة الرقمية، ويربطون بين لغتهم (العريقة) وبين التخلف والجهل!
أما أكثر معلمي اللغة العربية في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا، فهم يشيعونها إلى مثواها الأخير، لأنهم يُدرِّسونها باللغة العامية المحكية، كقواعد للمحفوظات، أو كدواءٍ مُرٍّ، انتهت صلاحيته، وفسدَ منذ زمن طويل، ليست للاستعمال اليومي.
كذلك فإن أكثر أهل اللغة حين يختارون مقرراتِها في معاهد التعليم، يختارون الصعبَ، والمُنفِّر من النثر، والشعر، ويُهملون روائع اللغة وجمالياتها البديعة، خوفا مِن ثورة أبناء اللغة، فجمالُ اللُغةِ ينعش عواطفهم، ويُقَوّي عقولهم، وهذا بالطبع يُزلزلُ عروشَ الحكام العرب الطُغاة، أعداء العقول النشطة!
أما أكثرُ وسائل الإعلام، فإنها لا تُقدِّمُ من البرامج إلا البرامج التي أذابت اللغة العربية على الشفاه، في خليطٍ متنافرٍ من المساحيق اللفظية العامية الجديدة، تشبه أقلام الروج والماكياج المصنوع في بلاد أجنبية، فهي مساحيق، تشبه اللغة، ولكنها ليست هي، طلبا للحظوة عند المشاهدين والمستمعين، وجلبا للإعلانات.
صار الحديث باللغة العربية يتنافى مع الرِّقة، والعواطف، والأحاسيس، وغدا الحديثُ بها لا ينفع إلا في مقامات العُنف، والتهديد، والإرهاب، حتى أن كثيرات من الفتيات، ينظرن بغير وُدٍّ، أو بتقَزُّز، لمن يتحدثون اللغة العربية، وهناك حالات رفضت فيها فتيات أن يتزوجن من أزواجٍ، لأنهم يتحدثون اللغة العربية!
من دلائل ضعف وهوان أهل اللغة، وليس اللغة، أنَّ في بلاد العربان سبعةَ مجامعٍ لُغوية، لا ترتبط بعلاقات التنسيق، فهي ليست مجامع لغوية، وإنما أحزاب سياسية، اتخذت اللغة مطيةً لمنافسة الآخرين، فلم يتفق أهل اللغة على مَجمع عربي واحد، على الرغم مِن أن لغتَهم واحدة!
ومن علامات الضعف التي رصدتُها، أنَّ معظم طلاب المرحلة الإعدادية، والثانوية، في مدارس العرب، يحفظون ترتيب حروف الهجاء الأجنبية بكفاءة، بينما يجهلون في الوقت نفسة ترتيب حروف الهجاء في لغتهم العربية!
مضافا إلى ذلك، فإن أكثر الطلاب العرب لا يزالون يجهلون آليات البحث عن الكلمات في المعاجم العربية، نظراً لصعوبتها من جهة، ومن جهة أخرى لأن شرح الكلمات في هذه القواميس مُضلِّلٌ، غير محدد، يحتاج إلى خبير لُغوي، على الرغم من محاولات كثيرين من علماء اللغة إعادة ضبط هذه القواميس والمعاجم، إلا أن الجهود لم تكتمل بعد، على غِرار ما يحدث في اللغات الأخرى، حين تُضاف في كلِّ عام قائمةٌ من المفردات جديدة إلى مخزونات لغاتهم، فاللغاتُ كائنٌ حيٌّ تنتعش بالتجديد، وتَقوى بفيتامينات كفاءات أهل اللغة، وبهرمونات الباحثين الأذكياء.
أخيرا: ما أكثرَ مدرسي اللغة العربية! ولكن، ما أقل المعلمين الذين يعلمون أبناءنا (حُبَّ) اللغة العربية!