في كتابه "الإيزيديون في العراق (الذاكرة، الهوية، الإبادة الجماعية) الصادر عن المجلس الأسقفي الإيطالي ومنظمة "جسر إلى" الإيطالية، كتب سعد سلوم عن الإيزيديين، كتاريخ وهوية وحالة منفردة، يعيشها قوم من الناس يطلقون على أنفسهم اسم الإيزيديين. تحدث الكاتب مطولاً عن المغالطات التاريخية التى رافقت هذه الجماعة أو هذه الأقلية المهمة كما سماها، بدءاً من إطلاق اسم الإيزيديين عليهم بغير إدراك أن مثل هذا الإسم قد ينطوي على محاولة تقديمهم بصورة خاطئة على أنهم من أتباع الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، ومن ثم ردهم الى أصول قومية عربية، مروراً بحالة الاضطهاد التي عاشوها منذ عقودٍ خلت، وصولاً الى عملية الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها بعد العام 2014 على يد تنظيم داعش.
وجّه الكاتب في الصفحات الأولى من كتابه كلمة إهداء تكاد تختصر الكتاب كله، في قوله (إلى سبايا القرن الحادي والعشرين)، مستطرداً أن حالة السبي التي تعرّض لها النساء الإيزيديات واغتصابهن من قبل مقاتلي داعش، مثّل نوعاً خاصاً من الهجوم، نوع قد يثير قلق العالم بوصفه هجوماً قائماً على النوع، لكنه أكثر من ذلك بكثير. فقد استخدم كوسيلة للتطهير العرقي لتحقيق أهداف تتعدى مجرد الاعتداء على النساء واستخدامهن كسلعة في سوق نخاسة القرن الحادي والعشرين.
وأضاف الكاتب: لقد كان استخداماً للنساء في الحرب بهدف الترويع والإذلال الجماعي لأقلية دينية وحطّاً لكرامتها، وأيضاً بهدف التأثير على التكوين العرقي لهذه الأقلية الدينية، وبذا ينتمي هذا الفعل الى سلسة الابادات التى حاقت بالإيزيديين والتي تعرف باسم الفرمانات، فهي من حيث الجوهر تعد استمراراً لتلك السياسات التي حاولت استئصال الإيزيديين وتغيير عقيدتهم والتأثير على تكوينهم العرقي والديني المتميز. وقد قام الكاتب بعملية مقاربة للأفعال التي تكوّن أركان هذه الجريمة كما أسماها، وضرب أمثلة لما فعله الأتراك بالأرمن لدفع النساء الأرمنيات لاعتناق الاسلام، أو ما فعله الصرب بالبوسنيات او الهوتو بالتوتسيات، واستخدم مصطلح (الإيزيديات كسلاح في حرب التطهير العرقي).
الإيزيديون: المعتقدات، الطبقات، الميثولوجيا
يقسّم سلوم كتابه الى سبعة فصول. في الفصل الأول يتناول الكتاب معتقدات الإيزيدية والطبقات الدينية وتركيبة مجتمعهم وكتبهم والجانب الفلسفي والديني والميثولوجي لهذه الجماعة. وذكر الكاتب أهم علامات تدل على الإيزيديين في العراق، بدءاً من سفوح جبل سنجار شمال العراق، وهو الجبل الذي احتضن الإيزيديين منذ مئات السنين وارتبط اسمه بإسم الإيزيديين إثر حملة الإبادة التي تعرّضوا لها من قبل تنظيم داعش، فضلاً عن وادي لالش في قضاء الشيخان شمال الموصل، حيث قدمت هذه العزلة الجغرافية حماية لهذه الجماعة الإثنية المتميزة من الانقراض، بانتشارهم في الشمال والشمال الغربي من العراق، وتحديداً في المنطقة المحيطة بجبل سنجار غربي الموصل، وفي قضاء الشيخان شمال شرق الموصل، وبعض قرى ونواحي قضاء تلكيف، وناحية بعشيقة، وأقضية زاخو وسمّيل في محافظة دهوك.
ووصف الكاتب الإيزيديين بأنهم جماعة تعيش خارج التاريخ أو داخل عالم الخرافة. وقد عرّج على تسمية الإيزيدية التي تعد من الديانات القديمة، حيث ذكر العديد من التسميات المرتبطة بآراء متضاربة لا يمكن حصرها ولكنها تعبّر عن حقيقة كون الإيزيدية قد مرت بمراحل تاريخية متعددة واتخذت أسماء عديدة. وعرض الكاتب لرأي الباحث "هوشنك بروكا" الذي يرى أن الإيزيديين يعيدون تسميتهم الى إلههم "ئيزي" في أدعيتهم وأناشيدهم الدينية، بل يقولون إن ئيزي ما هو إلا اسم من أسماء الله.
وعن الميثولوجيا الإيزيدية يختصر الكاتب بنقل القول "إن الإيزيدية تشبه بحد ذاتها تلة أثرية طمرتها رمال آلاف السنين، ولم يجرِ التنقيب عن كوامنها إلا قليلاً".
أساطير وسحر: مدارس الكتابة عن الإيزيديين
في الفصل الثاني، ينقل لنا الكاتب المدارس التي كتبت عن الإيزيدية، مثل المدرسة الغربية الاستشراقية، التي يمثّلها بشكل رئيس الرحالة الغربيون الذين زاروا مناطق الإيزيديين واحتكوا بهم على نحو سطحي. والمدرسة العربية الاسلامية التي يمثّلها جيل من الكتّاب العرب الذين صاغوا قالباً نمطياً عن الإيزيدية من خلال مرجعية ثقافتهم العربية الإسلامية. والمدرسة الإيزيدية التي يمثّلها باحثون إيزيديون تصدوا لتوضيح معتقداتهم بعد أن بلغ تشويه هويتهم حداً لا يمكن السكوت عنه أو إهماله، وقد كانت الأخيرة بمثابة المرجع الأصح لقراءة الإيزيديين. بدأ ذلك مع سبعينيات القرن الماضي مع بروز نخبة من الكتاب الإيزيديين الذين انتفضوا ووجودا أنهم الأحق بالكتابة عن أنفسهم. وبعد حرب الخليج عام 1991 وحصول الأكراد على وضع استقلال نسبي، أتيح للإيزيديين هامش من التحرك لم يكن متاحاُ من قبل، وهذا العامل - في رأي الكاتب - سمح لعدد كبير من الباحثين الإيزيديين أن ينشطوا، وأُسست مراكز بحثية خاصة بالإيزيدية. ويذكر سلوم الباحثين الايزيديين خضر سليمان وخليل جندي، نظراً للدور الذي لعباه في انهاض مستوى الوعي الإيزيدي.
تيارات الهوية الإيزيدية المعاصرة
أما في الفصل الثالث فيتناول الكتاب تيارات الهوية الإيزيدية المعاصرة، منها تيار الهوية الكردية والذي يؤمن بأنهم (كورد أصلاء)، وهذا ما يتبناه الخطاب الكردي الرسمي، وتتفق هذه الرؤية مع ما ذهب إليه كثير من المستشرقين الذين عدّوا الإيزيدية ديناً قومياً للأكراد.
أما موقف السلطة في ظل نظام البعث، فيعرضها الكاتب من خلال وثيقة وُجهت الى متصرفية لواء الموصل عام 1966، نشرها في كتابة الحالي تتضمن سؤالاً بشأن (قومية الإيزيديين)، الأمر الذي يفسّره الكاتب بأن السلطة لم تكن متيقنة من هوية الإيزيديين، أو على الاقل لم تحسم أمرها من دون الرجوع الى قادة الجماعة وسؤالهم على نحو مباشر.
ثانياً: تيار الهوية العربية، التي تقول إن الإيزيديين عرب أمويون، وذلك يعد جزءاً من سياسة التعريب التي طالت مناطقهم، من خلال تدمير مئات القرى الإيزيدية، وتوطين العرب فيها وشن حملات عسكرية وترحيلهم وتهجيرهم وإسكانهم في مجمعات قسرية، حتى صدور قانون المحافظات في الأول من تموز 1963 حيث أعيد توزيع المحافظات بحيث ضمت مناطق كردية يقطنها الإيزيديون الى إدارة المناطق العربية.
ثالثاً: يعرض الكاتب تيار القومية الإيزيدية ممن أسماهم دُعاة الهوية المستقلة، ممن يؤكدون على المحدد الديني الذي يختلف فيه الإيزيديون عن بقية الأكراد المسلمين، فرفعهم الى مصاف هوية مستقلة أو هوية قومية. رابعاً: الخصوصية الإيزيدية، والتي نادت بالهوية الدينية قبل الهوية القومية، حيث يؤكد هذا التيار على الحد الأدنى من الهوية المستقلة بإشارته الى "خصوصية إيزيدية". ويعتبر هذا التيار بحسب الكاتب تياراً هادئاً أو وسطياً.
خامساً: يشير الكاتب الى تيار الهوية المدنية وهم دُعاة المواطنة، ويرى هذا التيار أن الفيصل في إثبات الهوية وتأكيدها هو توافر حرية الدين والمعتقد التي تجعل من الفرد مطمئناً لممارسة شعائره الدينية من دون خوف من الآخر.
الإيزيديون وسياسات الدولة في العراق الحديث
في الفصل الرابع يتناول الكاتب حياة الإيزيديين مع سياسات الدولة في العراق الحديث، ويسرد تاريخياً كيف تعرضت هذه الجماعة للاضطهاد منذ التواجد العثماني على أرضهم، حيث كانت العلاقة بين الحكام المتعاقبين والإيزيديين تتسم بعدم الثقة، وهي سمة سيطرت على طبيعة العلاقات مع الحكومة المركزية حتى بعد تأسيس العراق المعاصر.
ويعرض سلوم وثيقة عثمانية تظهر محاولة اجبار الإيزيديين على اعتناق الدين الإسلامي، ويؤكد أن ما عُرف عن الإيزيديين من بسالة وتحدٍ ورغبة في الاستقلالية، جعلهم يتصدون للحملات العثمانية وثبتوا في وجهها، واستمرت سياسة الحملات لإخضاعهم، واستمر من جانب آخر التمرد الايزيدي إزاءها لتحكم طبيعة العلاقة مع العثمانيين في مواسم هدوء نسبية وقصيرة، يتخللها من حين إلى آخر فتاوى وفرمانات تستهدف المختلف إثنياً وإباحة المخالف دينياً.
وبعد تأسيس العراق المعاصر، يعرض الكاتب لفترة الانتداب البريطاني للعراق، حيث كان الإيزيديون محط صراع قوي ثلاثي (تركي – فرنسي – بريطاني) حول مناطقهم. في تلك الفترة يصف الكاتب حالة التخبط التي رافقت الإيزيديين، حيث كانوا بحسهم الاستقلالي العالي يشكّلون عقبة إزاء الاعتراف بالدولة الجديدة وضرورة الالتحاق بها، فهل من الممكن أن يضع هذا الالتحاق نهاية للفرمانات التي كانوا يواجهونها طيلة تاريخهم المعاصر وأن يتمتعوا أخيراً بحقوق المواطنة أسوة بغيرهم من المواطنين المسلمين. نجحت بريطانيا آنذاك في إقناعهم بذلك، وكان بقاء الانتداب البريطاني ضمانة في هذا السياق.
حين نتابع اليوم الضربات الجوية لقوات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الذي احتل سنجار وشرد أهلها، لا يمكن لنا سوى أن نفكر بالأهمية التي كانت لسلاح الجو في فرض سيطرته على هذه المنطقة ابتداء منذ تأسيس العراق المعاصر، وهي أهمية ما كان يمكن فرض سلطة بغداد من دونها على جنوب وشمال البلاد، وما كان بالإمكان بزوغ العراق كدولة مستقلة من دون أجنحتها وقنابلها الساقطة من السماء، بحسب الكاتب.
وتحدث الكاتب عن سياسة الاستيعاب في إدارة شؤون الطائفة الإيزيدية وتأسيس المجلس الروحاني، حيث أقر القانون الأساسي للعراق(الدستور) عام 1925 اللغة العربية لغة رسمية للدولة، وأشار الى حق المواطنين بالمساواة وعدم التمييز فلا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وإن اختلفوا في القومية والدين واللغة. كما نص على تنظيم شؤون الطوائف الدينية، وصدرت بعدها تشريعات لتنقل هذه المواد الدستورية الى حيز التطبيق وتتضمن تفاصيل تضمن حرية الطوائف الدينية في إدارة شؤونها الدينية أسوة بالمسلمين على تعدد مذاهبهم.
وينتقل الكاتب الى سياسة التذويب، حيث تحدث عن الإيزيديين في ظل الحكم الجمهوري للعراق، وهنا يكرر حديثه عن بعض صفات الإيزيديين من صعوبة المراس وعدم الانقياد للسلطات خلال حقبة حكم العثمانيين، وبداية حكم العراق المعاصر في العهد الملكي، ومحاولة سلطات البعث أن تتقدم خطوة مبنية على فهم الشخصية الإيزيدية ودراستها بغية السيطرة عليها وإمكانية توظيفها في الصراع ضد الجماعات المتمردة الأكبر (الأكراد)، أو إبعادها عن تأثير الحركة الكردية على أقل تقدير.
وعرض الكاتب في نهاية هذا الفصل، ما أسماها لعبة العنف الأفقية لنظام البعث ضد الإيزيديين، حيث أتقن نظام البعث فن التلاعب بالعلاقة مع الجماعة الإثنية من خلال استعداء بعضها البعض، حيث استعمل الإيزيديين في صراع الحكومة المركزية مع الحركة الكردية من خلال تجنيدهم مع القوات الحكومية في الميليشيات الموالية للسلطة ضد المتمردين الأكراد. كما تشير بعض المصادر الى استعمالهم في قمع انتفاضة الشيعة في جنوب العراق عام 1991، ويعرض الكاتب لبعض المصادر والمراجع التي تثبت هذا الأمر.
الإيزيديون من الدولة القومية الى دولة المكونات
تحدث الكاتب في هذا الفصل عن الدستور العراقي عام 2005 واعترافه بالتعددية الدينية والقومية والمذهبية للمجتمع العراقي، حيث ذُكر اسم الإيزيديين في الدستور مما يعني الاعتراف الرسمي بهم. بناءً على ذلك، أصبح للايزيديين تمثيل برلماني في مجلس النواب، فضلاً عن تشكيل هيئة للأوقاف الإيزيدية في بغداد، ضمن أوقاف الديانات غير المسلمة. ولكن الكاتب يعود لقلقه بعد صعود التيارات الإسلامية المتشددة، ويبدي خشيته من الصورة القاتمة لمستقبل الإيزيديين، ويربط الكاتب الوطن الأمني العراقي بالسوري وما نتج من عدم استقرار بسبب وجود تنظيم داعش وبسبب ما أسماه خطاب الكراهية من بعض رجال الدين المسلمين الذين يسيئون للإيزيديين بالتلميح أو التصريح، مما يؤدي الى الاحتقان الطائفي على الرغم من قلة هؤلاء الدعاة الدينيين.
الإبادة الراهنة للايزيديين
في الفصل السادس، عرض سلوم، بالأرقام والإثباتات والوثائق، العدد الكلي للمخطوفين الإيزيديين في قبضة داعش حتى تاريخ آب 2015 والذي وصل عددهم قرابة 5838 شخصاً، منهم 3192 من الإناث، و2646 من الذكور، وعرض للكوارث التي تعرضت لها هذه الأقلية في جبل سنجار، حيث توفي أكثر من 1300 إيزيدي جوعاً وعطشاً ومرضاً، بالاضافة الى تفجير 21 مزاراً دينياً مقدساً لدى اتباع الديانة الإيزيدية. وتحدث سلوم عن الحالة النفسية التي رافقت الناجين من قبضة "داعش"، حيث سجّل الإيزيديون الحلقة 73 في تاريخ الفرمانات في ذاكرتهم، مؤسسين لبنية تحتية لعبودية النساء والرجال في القرن الحادي والعشرين.
الصراع حول سنجار
أما التحول الآخر لهذه الجماعة فهو الصراع حول سنجار، والذي نتج عنه تأسيس قوة عسكرية من المتطوعين تعرف باسم "قوة حماية سنجار"، حينها رفع المقاومون الإيزيديون راية خاصة بهم أصبحت رمزاً لهم، ولكن بحسب الكاتب فإن هدف تحرير المدينة من قبضة "داعش" اصبح أكثر تعقيداً في ضوء صراع النفوذ بين أطراف سياسية عدة في شأن سنجار.
سيناريوهات مستقبل الإيزيديين في العراق
في الفصل السابع والأخير طرح الباحث سعد سلوم سيناريوهات عدة حول مستقبل الإيزيديين كان قد تحدث عنها بشكل تفصيلي في الفصول السابقة، بعد سرد تاريخي وتسلسل عميق لكينونة تواجدهم بشكل عام. وطرح سيناريو الهجرة وهو الذي بدأ فعلاً إبان حرب الابادة التي تعرضوا لها على أيدي تنظيم داعش عام 2014، وهو خيار صعب جداً على الإيزيديين. لم تكن الهجرة الجماعية هجرة طوعية، وهي تمثل بطبيعة الحال حلاً نهائياً بحسب الكاتب، هذه الهجرة تهدد بفقدان التنوع الى الأبد، وهي ليست خياراً للإيزيديين النازحين فقط، بل حتى الإيزيديون خارج مناطق نفوذ "داعش" يبيعون ممتلكاتهم ويهاجرون (هجرة اللاعودة).
أما عن سيناريوهات الإصلاحات الداخلية، فكتب سلوم عن إصلاح المؤسسات الدينية وإصلاح نظام الطبقات، والإصلاح بين المؤيدين والمعارضين. وأشار الى سيناريو استحداث منطقة خاصة بالإيزيديين بحماية دولية، في محاولة لوقف الهجرة، وسيناريو وضع خاص لمناطق الإيزيديين، مع استقلالية إدارية واقتصادية وتعليمية، وهو بذلك يعيد طرح ما ذُكر بالدستور العراقي حول المواد المتعلقة بحقوق الأقليات في المادة 116 حتى المادة 124.
وفي نهاية الكتاب عرض الكاتب سعد سلوم صوراً وملاحق ومخطوطات كتبت عن الإيزيديين.