حتى الآن يبدو موضوعيًا وحقيقيًا، استبدال مصطلح الربيع الروسي بالربيع العربي؛ ذلك أن الفراغات الهائلة التي أوجدها هذا الربيع في الشرق الأوسط والعالم وحتى على صعيد العلاقات الدولية، فتح لروسيا التي كانت منبوذة تمامًا عن السياسات الشرق أوسطية، مجالاً حيويًا جعلها منافسًا متفوقًا في بعض المناطق على المتحكم التاريخي في الشرق الأوسط الولايات المتحدة.
روسيا التي سعت طويلاً لتحقيق حلم السباحة في المياه الدافئة، واستثمرت بسخاء في مصر أولاً، ثم في معظم الجيوش العربية تأسيسًا وتطويرًا وكلفها هذا الاستثمار المستحيل نزفًا ماليًا واقتصاديًا أسهم بنسبة واضحة في تراجعات استراتيجية للاتحاد السوفياتي على المستوى الداخلي والتحالفي والتأثير الدولي، روسيا والحالة هذه وبعد الانهيار السوفياتي المروع، وتفكك المنظومة الاشتراكية وتلاشي حلف وارسو، أوجد الربيع العربي لها حظًا يكاد يكون مجانيًا في تحقيق ما كان مستحيلاً قبل عقود قليلة، والنهوض من الرماد لتعود وفي زمن قياسي القطب الآخر في عالمنا المعاصر ولو إلى حين.
روسيا التي تلاعبت بالوضع الداخلي الأميركي، واتهمت، ويبدو أنه اتهام محق، بالتأثير على مجريات الانتخابات الأميركية، وكأن القطب الوحيد الكوني المسمى بأميركا صار واحدة من دول المنظومة الاشتراكية ودونالد ترامب واحدًا من الأمناء العامين في دولة ما من دول هذه المنظومة الذين كانوا دائمًا يعينون في مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في قلب موسكو.
الطبخة الروسية الكونية، والشرق الأوسط أحد مكوناتها الأساسية، يمكن أن تظل بلا طعم إذا لم يرش عليها الملح الفلسطيني، وموسكو الممنوعة لعقود طويلة رغم كل ما دفعت وعملت، عن معادلات الحلول في الشرق الأوسط، ازداد إدراكها ويقينها بأهمية تطوير الصلة بالوضع الفلسطيني بما يخرج عن النمطية التقليدية باتجاه تجديد في العمل المباشر فلسطينيًا وإسرائيليًا، ولمَ لا ما دام نتنياهو أدمن الاتصال الهاتفي ببوتين، لمناقشته في كل صغيرة وكبيرة، وما دام محمود عباس صديق موسكو في كل العهود، لا يمكن أن يقول لا لبوتين، حتى لو طلب منه سيد الكرملين أن يتجاوز عن بعض الشروط للقاء نتنياهو وفتح حوار سياسي معه في موسكو، ليس هذا فحسب.. فبنظرة إلى أرشيف الدولة السوفياتية، فبوسعك أن ترى أسماء جميع القادة الفلسطينيين ممن لا يزالون على قيد الحياة والموقع قد زاروا موسكو عشرات المرات، لمحادثات روتينية مع الرفاق السوفيات.
لقد قررت موسكو فيما يبدو إعادة إحياء هذا التراث الذي غمرته السنون والتطورات المعاكسة، ونفض الغبار عنه لاستعادة نفوذ يوفر ملحًَا كافيًا للطبخة الروسية الشرق أوسطية، فها هي موسكو تقترح على الفلسطينيين جميعًا، حوارًا شاملاً يفضي إلى استعادة وحدتهم ليدخلوا المستقبل متأبطين ذراع الحليف القديم، إذ لا أمل للفلسطينيين كما تقول موسكو في أي ترتيب شرق أوسطي قادم إلا إذا اتحدوا، والمؤهل لذلك بالطبع هو الدولة الروسية العظمى وليس أي دولة أخرى.
من ثوابت الوعي السياسي الفلسطيني أن موسكو مهما فعلت تظل الصديقة الأقرب على الصعيد الكوني، ذلك بالمقارنة مع التراث الأميركي الذي لم يجد فيه الفلسطينيون ما يبدل رهاناتهم، لهذا فإن ما تحتاجه الطبقة السياسية الفلسطينية على مختلف مشاربها وانتماءاتها هو مجرد غمزة من الكرملين، حتى يتقاطر الجميع تلبية لدعوة الحليف الروسي، وقد تكون الاستجابة للدعوة مقدمة لبلوغ خلاصات.
عن الشرق الأوسط