أزمة فلسطينية عالقة ولكن

حمادة فراعنة
حجم الخط

خلصنا إلى أن ضعف المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي يكمن في بنيته الداخلية، وعدم قدرة الفصائل على الرقي في أدائها التنظيمي إلى مستوى التحديات التي تواجهها !، وعلاقاتها الجبهوية، مع بعضها البعض، وسوء التحكم في إدارة مؤسساتها، وضياع بوصلة أولوياتها، ولذلك تختلف الفصائل الفلسطينية على جلد الدب قبل صيده، وتتصارع على السلطة قبل نيلها، وتتقاسم على الكعكة قبل طهوها.
ولكن على الرغم من ضعف المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، فالقضية التي يناضل من أجلها عادلة، والأهداف التي يسعى لها مشروعة، والشعب الذي يحمل المشروع لديه الاستعداد العالي للتضحية، ولكن علينا أن نفحص أنه ليس لكل تضحية نتائج إيجابية مباشرة وملموسة، وأبرز مثل على ذلك تضحيات وعمليات «القاعدة» و»داعش» الانتحارية، لا أعتقد أن تاريخ الصراعات السياسية والدينية والقومية سجل حجماً كمياً ونوعياً بعدد المنتحرين ونوع عملياتهم الانتحارية، وحجم ما خلفوه من ضحايا وخراب ودماء وتأثير على الطرف الآخر، أو الأطراف الأُخرى المستهدفة من عملياتهم، كما فعلت كل من «القاعدة» و»داعش» ومع ذلك نتائجهم وحصيلة أعمالهم ليست فقط مدمرة لأعدائهم وخصومهم، بل هي مدمرة لذاتهم وعناصرهم وقياداتهم وعقيدتهم وفلسفتهم.
ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية وتشتتها ليس أبدياً ولازماً ووجودياً، بل هو ضعف إجرائي يمكن التخلص منه ومعالجته، فالظروف الموضوعية التي كانت في الخمسينيات والستينيات أسوأ وأقصى مما هي عليه الآن، ومع ذلك ورداً على تلك الظروف ولدت حركة فتح وجبهة التحرير الفلسطينية وأبطال العودة وغيرهم من النويات الفلسطينية الأولى، قبل تشكيل منظمة التحرير عام 1964، وبعد تأسيس منظمة التحرير كانت النكسة واحتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، فكانت النتيجة السلبية أنها شكلت حوافز للعمل والتنظيم وتفجير الإرادة الفلسطينية المحدودة، وانفجرت على مداها الشعبي مع معركة الكرامة في 21 / آذار 1968، لتكون أول محطة نوعية على طريق انتشار الثورة وتعميقها بين صفوف اللاجئين وأبناء المخيمات، وعندما اندفع الاجتياح الإسرائيلي إلى لبنان، وخروج القوات الفلسطينية كي تنتشر بين العواصم العربية عام 1982، شكلت حوافز للعمل في داخل الوطن كي تنفجر الانتفاضة العارمة عام 1987 في مناطق 1967، ويترسخ حضور الثورة بين مسامات شعبها في سائر مناطق الوطن، وبين مختلف شرائحه، كل حسب ظرفه، ولكن بوضوح بالغ : هوية فلسطينية فاقعة، وانتماء قومي عميق، وعداء جوهري لمشروع الاحتلال برمته ولكيانه وأهدافه، وخلاصة ذلك وجود شعبين فلسطيني وإسرائيلي على الأرض الواحدة، بعد محاولات المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وهدفه شطب الوجود العربي الفلسطيني برمته عن أرض الوطن، وبذلك كان العامل الأول الأكثر أهمية في فشل المشروع الإسرائيلي الهادف إلى طرد كل الفلسطينيين عن وطنهم الذي لا وطن لهم سواه، وكان ذلك هو المدماك الأول بوجود شعب على أرض وطنه، وليس مجرد جالية أو أقلية تعيش على أرض الآخرين، بل شعب يعيش على أرض وطنه، رغم طرد نصفه وتشريدهم خارج وطنهم منذ عام 1948، شعب يعيش على أرضه محكوم من قبل أجنبي، عدواني، مستعمر، عنصري وفاشي.
مأزق المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي وأزمته بل وفشله يكمن بهذا العامل الجوهري المتمثل بوجود شعب فلسطيني على أرضه، وأن هذا الشعب رافض للاحتلال، ويعمل بما تتوفر له من إمكانات متواضعة، في مواجهة الاحتلال، وها هو رئيس دولة المشروع الإسرائيلي رؤوفين ريفلين يُقر على أثر تسلمه «التقييم الإستراتيجي السنوي لمعهد بحوث الأمن الوطني» بقوله «علينا أن نبدأ في التفكير عملياً، بما يسمح لنا ببناء الشروط للاتفاقيات المستقبلية مع الفلسطينيين، ليس هناك خيار آخر، يجب علينا أن نبدأ التفكير في المستقبل، وكيف نستطيع الخروج من المأزق السياسي مع الفلسطينيين».
إقرار ريفلين، واقعي حسي وتسليم بما هو قائم، بعيداً عن الشطط والتظاهر بالقوة والادعاء بالتفوق، فرغم التفوق الإسرائيلي، ولكن المشروع برمته وصل إلى طريق مسدود، حصيلته ما سبق وسلم به إسحق رابين في اتفاق أوسلو عام 1993، وما فعله شارون منفرداً بترك قطاع غزة وإزالة المستوطنات وفكفكة قواعد الجيش منها وعنها عام 2005 .
الفلسطينيون أزمتهم ذاتية، بينما أزمة الإسرائيليين وجودية تفتقد للشرعية والمنطق والحق، ولولا الدعم الأميركي والأوروبي، وإسناد الطوائف اليهودية المتنفذة، لما واصل المشروع الاستعماري التوسعي عنجهيته وتطرفه، وما الإنجازات الفلسطينية التراكمية بدءاً من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29/11/2012، بالاعتراف بدولة فلسطين بواقع 138 دولة ضد 9 دول فقط، وقرار مجلس الأمن 2334 الصادر يوم 23/12/2016 بإجماع 14 دولة بما فيهم فرنسا وبريطانيا، ضد الاستيطان وعدم شرعيته، وتصريحات وزير الخارجية جون كيري قبل نهاية العام الماضي، وانعقاد المؤتمر الدولي بدعوة فرنسية في باريس بعد أيام، سوى دلائل ورؤى دولية وخطوات مهما بدت متواضعة ولكنها تراكمية من أجل فلسطين وضد إسرائيل.
المجتمع الدولي الذي صنع إسرائيل على أرض الفلسطينيين يتراجع خطوات مدروسة عن دعم المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، ويتقدم خطوات حثيثة لصالح المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، وهذا ما يجب التسليم به والرهان عليه.