لا يغفل متابع حالة البحث العلمي في فلسطين الذي يمكن الشك في وجوده من الأساس. ومن المؤكد أن حالة الاهتمام بالبحث العلمي والتطوير، سواء على الصعيد الرسمي، أو من قبل رأس المال الوطني، أو عدم وصول موجة الدعم الخارجي للبحث العلمي، تشير إلى حالة عامة يغيب فيها الاهتمام بالثقافة وبالعلم (وليس التعليم) والتطوير والفنون وغير ذلك.
وكنت في مقالتي السابقة على هذه الصفحة قد أشرت بإفاضة إلى غياب الاهتمام بالثقافة وبالحوافز التي تشجع على الإنتاج الثقافي وتدعمه، بجانب غياب أي اهتمام رسمي أو غير رسمي في تطوير جوائز وطنية قادرة على مكافأة الإنتاج الجيد، وعلى توجيه الذائقة العامة أو الإشارة إلى اتجاهاتها.
ولا يختلف الأمر كثيراً حين يتعلق الأمر بالبحث العلمي، حيث لا توجد حوافز لتطوير البحث العلمي والتشجيع عليه. ومن المهم في هذا السياق الفصل بين التعليم وبين البحث العلمي، إذ إن التعليم قد يحظي بالكثير من الاهتمام، خاصة في المراحل الأساسية، وصولاً للتعليم الثانوي. وكثيراً ما فاخر الفلسطينيون بتدني نسبة الأمية في صفوفهم مقارنة ليس بدول الجنوب ولكن أيضاً في المنطقة العربية وببعض الدول المتقدمة.
وأسباب كثيرة قادت إلى هذه النتيجة لكنها في المحصلة كلها تشير إلى وجود وعي شعبي عام واهتمام رسمي سواء على صعيد الحكومة أو وكالة الغوث بأهمية التعليم كأداة في الحفاظ على المجتمع. وجزء كبير من هذا الاهتمام يعود إلى المكانة التي يضع فيها الشعب الفلسطيني التعليم، وما يعتقد فيه من مكانة في تجاوز محنته الكبرى: النكبة.
وليس الأمر مقصوراً في هذا السياق على الشعب الفلسطيني داخل حدود الجغرافيا، بل إنه يشمل كذلك الفلسطينيين في بقاع الأرض كافة وفي قلب كل ذلك مخيمات اللجوء. فالفلسطيني أدرك أن التعليم سلاح لا بد أن يكون بحوزته إذا أراد أن يتجاوز الطامة الكبرى، وعليه وضع التعليم في مكانة مهمة في كل النقاشات الفلسطينية حول المستقبل، لكن لننتبه مرة أخرى أن كل ذلك جاء ضمن السياق العام للأزمة الفلسطينية، وبالتالي لم يكن إلا جزءاً من المعالجة الذاتية لآثارها، وهذا بحد ذاته يجب أن يكون موضع تقدير.
لكن مرة أخرى هذا لا ينطبق على البحث العلمي. بالتأكيد لا بد من إشارة ولو سريعة إلى أن البحث العلمي أيضاً لا يحظي بالكثير من الاهتمام من قبل الدول العربية، وهو ليس في مكانة متقدمة في سلم أولويات الدولة العربية المعاصرة. ويمكن للبيانات أن تكون صادمة في هذا السياق، بل يمكن لنا أن نصاب بجلطة دماغية إذا ما وضعنا الأرقام والإحصاءات العربية في سياق مقارن مع دول الجوار الإقليمية من تركيا وإيران، وسنصعق إذا ما استرجعنا البيانات الإسرائيلية في هذا السياق، إذ إنه سيكون من الظلم وضع البيانات العربية أمام بيانات إسرائيل التي تنافس كبريات الدول الأوروبية في ذلك، خاصة حين يتعلق الأمر بالإنفاق على البحث العلمي من مجمل مصاريف الدولة ونسبة ذلك، والأرقام وحدها تحكي مليون حكاية عن اتجاهات الصرف العام الذي بدوره يكشف عن توجهات السياسات العامة والمكانة التي يحظى بها كل قطاع.
في السياق العربي ثمة إنفاق كبير على قطاعات الأمن بما تشير إليه من أدوات قمع للمواطنين وللحريات العامة، ورغم الصرف الكبير على التسلح إلا أن أياً من الدول العربية لم تصل لمصاف الدول القوية لا دولياً ولا إقليماً وكلها عاجزة عن تحرير شبر من فلسطين، والسبب في ذلك أن القوة لم تعن يوماً الاستهلاك بل الإنتاج.
وعليه فالدول العربية لا تنفق على إنتاج السلاح الذي سيعني الإنفاق على تطويره وجود سلاح عربي، ولكن هذا يتطلب وجود بحث علمي قادر على تطوير السلاح، فأساس كل شيء هو وجود بحث علمي حقيقي يقوم بتطوير النظريات العلمية في المجالات كافة، ويبحث عن تطبيقات لها في الاستخدامات العامة، وفي حالة غياب ذلك فإن تطوير السلاح كما تطوير أي صناعة سيكون صعباً بل مستحيلاً. من هنا فإن الصرف سواء على التعليم أو على شراء السلاح لا يعني تقدماً صناعياً ولا مادياً. في بعض الأحيان هو استثمار حقيقي لكنه لا يكفي، وربما بالعودة إلى التقارير المعرفية العربية والبيانات حول المساهمة العربية المعاصرة (وليس أمجاد يا عرب أمجاد)، فإن المرء قد يشعر بالخجل.
بالعودة إلى الحالة الفلسطينية، فإن الأزمة قد تبدو مضاعفة، فمن جهة فإن ثمة حاجة ماسة لوجود دعم وطني سواء رسمي أو من القطاع الخاص للبحث العلمي، ومن جهة ثانية فإن الصعوبات الكثيرة التي قد تعيق ذلك من شأنها أن تخلق مليون سبب، لكن رغم كل شيء فإن الحاجة لدعم البحث العلمي، خاصة في مجال العلوم الطبيعية، أمر ماس ومهم، وإن غياب مثل هذا الدعم لا يمكن السكوت عنه.
صحيح أن هناك ربما دوائر في الوزارات المختلفة تلامس مثل هذه المفاهيم، لكن هناك حاجة ماسة لوجود هيئة وطنية لدعم البحث والتطوير.
من الصعب القول بالحاجة لوجود وزارة مثلما هو الحال في الدول الصناعية وفي إسرائيل، ولكن يمكن أن تكون هناك هيئة حكومية تعني بتنظيم قطاع البحث والتطوير وتقوم بعمليات تنظيم العمل وتشجيع وجود مراكز أبحاث في العلوم الطبيعية في الجامعات والمصانع (وهذا سؤال كبير)، والأهم من ذلك توفر حاضنة للدفع باتجاه مشروع وطني يهتم بالبحث العلمي وبالتطوير في مجالاته المختلفة تعتمد في جوهرها على رأس المال الرسمي والوطني والاستثمارات في الابتكارات والتطوير.
هناك الكثير الذي يمكن عمله في هذا السياق كما في سياقات عديدة، لكن الأهم من كل ذلك أن يكون أي شيء ضمن رؤية وطنية لتعزيز تطوير قدرات الشعب الفلسطيني، وبالتالي تعزيز صموده. والبحث العلمي يمكن له أن يقدم مساهمة حقيقية ومهمة في ذلك.