"عشية رأس السنة، مقتل العشرات في هجوم تبنته "داعش" على ملهى ليلي في إسطنبول".
ولأغراض غير بريئة كان تركيز الإعلام منصباً على عبارة "ملهى ليلي".. حسنا، هذا غير مهم، لأن من واجب الإعلام تسمية الأشياء بأسمائها.. ولنا نحن أن نتخيل بعد ذلك ما نشاء.. مقتل 39 إنساناً، وجرح العشرات، هذا غير مهم.. المهم ماذا تفعل فتاة فلسطينية في ملهى ليلي في اسطنبول؟ طبعا ليس مهما أنها فلسطينية، المهم أنها فتاة!
من صاغ الخبر بهذه الطريقة يعرف الذهنية العربية جيدا، ويعرف بالضبط مقدار الكبت (بكل أشكاله) الذي تنعم فيه المجتمعات العربية.. يعلم أنه لو كتب: "مقتل 300 إنسان في الشارع" لن يهتم أحد بالخبر.. أما "الملهى الليلي" فهو المغناطيس الذي سيجذب اهتمام العرب من المحيط إلى الخليج.. قبل المجزرة المروعة وبعدها حدثت عشرات التفجيرات والعمليات الإرهابية في مختلف مناطق العالم.. راح ضحيتها أناس أبرياء.. لم ينتبه إليها أحد، لم ينشر الخبر أحد على صفحته الفيسبوكية، لم يتناقله المغردون على هواتفهم.. في تركيا نفسها حدثت 16 عملية إرهابية خلال العام 2016 قتل فيها المئات، كانت ساحاتها المطارات، المطاعم، الشوارع والميادين العامة، حتى حفلات الأعراس.. وهذه الحوادث مرت كأي خبر عادي.
في العراق وسورية والكثير من البلدان الإسلامية قامت داعش وغيرها من تفريخاتها ومشتقاتها بتنفيذ عمليات تفجيرية في الأسواق الشعبية، وفي الملاعب، والمقاهي، والمستشفيات والمساجد والكنائس.. جل ضحاياهم من المدنيين الأبرياء، من الفقراء والعمال والأطفال والنساء.. بالنسبة للبعض، كل هذه الجرائم عادية، ويمكن تجاوزها وتبريرها ونسيانها.. بما في ذلك "الأب" الذي فجر ابنتيه الطفلتين في "غزوة دمشق".. أما قتل الناس في "الملهى الليلي" بدم بارد وبشكل عشوائي فهو جهاد، وإعلاء لكلمة الله!! وكأن هذه الجريمة معزولة تماماً عن الجرائم السابقة.
"الملهى الليلي" في الذهنية الشرقية يقترن مباشرة باللهو والفجور وعظائم الأمور.. الملهى الليلي في تركيا، وفي البلدان السياحية شيء مختلف.. قد يكون كاباريه، وقد يكون مجرد مطعم يقدم المتعة والفرح لزبائنه.. هذا يعتمد على النوايا، والصور المخزنة في الذاكرة.. وفي مناسبة مثل "رأس السنة" أي مطعم يتحول إلى نادٍ ليلي، يقدم إلى جانب الطعام حفلا موسيقيا، أو مساحة للرقص، أو فرقة غنائية، أو عرضا فنيا ترفيهيا.. أي أن دخوله لا يعتبر جريمة توجب القتل.
لكن الأمر التبس على البعض، ممن اعتادوا سوء الظن، ومن تفترسهم عقدة الخطيئة والمعصية، من يقرنون دوما بين المرأة والرذيلة.. وهذا يذكرنا ببداية التسعينيات، حين انتشرت الأطباق اللاقطة، وكانت حديثة العهد، حينها ما أن يركّب أحدهم طبقا لاقطا على سطح بيته، حتى تبدأ منظومة الكبت بفعلها، ويبدأ الغمز واللمز بأنه لم يقتنِ "ستالايت" إلا ليشاهد الأفلام الإباحية! هكذا دوما، سوء الظن حاضر، والاتهامات جاهزة.
لأيام عديدة وصورة الصبية "ليان" ابنة الطيرة، تغطي صفحات الفيسبوك، بوجهها الطفولي وبراءتها الناصعة، تقف بشموخ أمام سيل الشتائم البذيئة، أمام المزاودين، والشامتين، الذين لبسوا فجأة لباس الشرف والأخلاق، الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على عقول الناس وسلوكهم.. لكنَّ "ليان" كشفتهم، وفضحت زيفهم، وازدواجية معاييرهم، وانفصام شخصياتهم، وكشفت مقدار الانهيار الأخلاقي الذي أخذ يضرب روح مجتمعاتنا، منذ أن اجتاحت قيمنا الحضارية، تلك الأيديولوجية المتزمتة القادمة من كهوف طورا بورا.
"ليان" استفزت كل هؤلاء لأنها حرة، لأنها أحبت الحياة، لأنها ماتت وهي تحاول أن تقتنص لحظة فرح بريئة.. فمثل هؤلاء لا يعرفون المرأة إلا مقهورة وسبيّة وتابعة.. هؤلاء يغضبهم أن تخرج أية امرأة عن ثقافة الحريم.. يغضبهم أن تحمل أية فتاة قلب فراشة.. يكرهون أية حالة لا تشبههم.. ينفرون من أي شخص يشذ عن القطيع.
المشكلة ليست في "ليان"، وشماتة البعض في مقتلها، فهي ليست الحالة الأولى، سبقتها عشرات الحالات الشبيهة، والمختلفة، التي في كل مرة ما أن يموت أحدهم حتى يتطوع الآلاف لتصنيفه، وإصدار الأحكام بحقه، وتقرير درجة إيمانه، أو تكفيره، وطرده من الجنة، وحرمانه من رحمة الله... بمجرد أن يكون الميت مسيحيا، أو يساريا، أو فتاة، أو شابا.. المهم أن يكون مختلفا عن المنظومة السائدة. حينها تنصب عليه اللعنات.. يظن أولئك (أصحاب الأخلاق الرفيعة) أن رحمة الله ستنفد، ولن يتبقَّ لهم منها شيء إن شملت أحداً غيرهم.. يظنون أنه ليس من حق أحد غيرهم أن ينتسب إلى الله، طالما أنه لم يوسم بمباركتهم المسجلة..
لماذا، وكيف وصلت مجتمعاتنا إلى هذا المنحدر؟! لماذا، وكيف يتجرد البعض من إنسانيته بكل خفة؟
من لام الضحية، وتجاهل المجرم.. ومن يبرر القتل بأي شكل، لا يحق له الحديث عن الأخلاق.