«الفلسطيني الطيب.. هو الفلسطيني الميت» هي عبارة قالتها غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل منذ عقود، وقد باتت تترجم السلوك الإسرائيلي الدموي الانتقامي ضد الفلسطينيين، وكنت أحسب أن هذه العبارة هي أقسى ما يمكن أن يوصف به إنسان، إلى أن طالعت مؤخراً مقالة للكاتب عودة بشارات راجع من خلالها بعض الأقوال الأشد قسوة من قبل إسرائيليين في علاقتهم مع الفلسطينيين، كالشاعرة نعومي شيمر التي كتبت قبل احتلال القدس العام 1967 قصيدة «قدس الذهب» وصفت فيها القدس كمكان تاريخي بلا سكان، «آبار المياه جفّت وميدان السوق فارغ» بمعنى أن ليس هناك في مدينة القدس إلاّ الفراغ، فالبشر من العرب الفلسطينيين، غير موجودين، وشرحت هذه الشاعرة قولها «العالم الذي ليس فيه يهود هو بالنسبة لي كوكب ميت، وأرض إسرائيل الفارغة من اليهود هي بالنسبة لي أرض قفراء فارغة» غولدا مائير اعتبرت الفلسطيني مجرد جثة، أما شيمر، فإنها تستكثر عليه حتى كونه جثة هامدة!
في جبل المكبر، حيث سكن الشهيد فادي قنبر، قامت إسرائيل خلال ستة أشهر فقط بهدم ثلاثة منازل وأغلقت منزلين، لعائلات قام أبناؤها بعمليات ضد المستوطنين الإسرائيليين، الإغلاق يعني ـ كما تشرح عميرة هس في «هآرتس» ـ ضخ الإسمنت إلى داخل البيت وملأه حتى السقف، خلال عامين هدمت إسرائيل 35 منزلاً وأغلقت 7 منازل، حقيقة أن أفراد عائلة من قام بمثل هذه العمليات ليس لهم أي يد فيما حدث، لم يفدهم على الإطلاق، ذلك أن قضاة ومحكمة الاستئناف العليا يعتبرون أن الهدم مجرد خطوة عقابية ردعية وشرعية وناجعة ضد من ينفذون العمليات (الأرقام من مركز الدفاع عن الفرد في إسرائيل ـ كما وردت في مقال لعميرة هس في «هآرتس»).
من البديهي في ظل هذه الحالة، أن فادي قنبر، كان يعلم تماماً، أن عقاباً جماعياً ينتظر عائلته وأطرافها كما عرف أن جثته ستبقى أسيرة في أحد المستشفيات الإسرائيلية ولن تسلم إلى ذويه، كما أنه على علم مسبق بأن أفراد عائلته سيضافون إلى قائمة المعتقلين في سجون الاحتلال وهؤلاء لن يكون لهم بيت بعد هدمه، وإذا ما خرجوا من المعتقلات الإسرائيلية بعد وقت ليس بالقصير، فإنهم سيعيشون في العراء بعد أن تم هدم بيوتهم أو تم غلقها بالطريقة التي أشرنا إليها.
فادي قنبر أدرك ذلك، لكن ذلك لم يكن كافياً لكي «يرتدع» كما بررت المحاكم الإسرائيلية دائماً العقاب الجماعي الذي تمارسه قوات الاحتلال ضد عائلات شهداء مثل هذه العمليات، هنا وفي مثل هذه الحالات، فإن الإجراءات الردعية الدموية الانتقامية، وخاصة في مدينة القدس المحتلة، لم تعد قاصرة على كونها رد فعل على مثل هذه العمليات، وفي نظرنا كفلسطينيين ومقادسة تحديداً، فإن هذه الإجراءات، ما هي إلاّ سلوك يومي معتاد لقوات الاحتلال، في مواجهة «سكان» وليسوا مواطنين في الدولة العبرية، يتميزون ببطاقة هوية زرقاء تنتقص من كافة الحقوق ويخضعون لكل أصناف التمييز المنهجي المتعمّد، خاصة فيما يتعلق بالتهويد والتهجير، عملاً بقصيدة نعومي شيمر «قدس الذهب» التي أشرنا إليها آنفاً!!
ومنذ انطلاق الانتفاضة الثالثة، بالدهس والطعن، لم تتمكن قوات الاحتلال من وقف مثل هذه العمليات، ومن الواضح أن هذه الانتفاضة عبارة عن موجات متتالية تخبو حينا، وتنتفض من جديد أحياناً أخرى، صحيح أن قوات الاحتلال ربما أحبطت القليل منها، لكن في نهاية الأمر لم تتمكن من وقفها، والعملية الأخيرة التي استهدفت جنوداً تعتبر نقلة نوعية من قبل الشباب الفلسطيني، غير أنها، أيضاً، اعتبرت نقلة نوعية بسلوك الاحتلال ليس من جهة الإجراءات الدموية الانتقامية، ولكن لجهة محاولة وضع مثل هذه العمليات في اطار دولي، اطار محاربة الإرهاب، كما ورد على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، عندما أشار وهو في ساحة العملية إلى أن من قام بها، «ملهم من داعش» للإيهام أولاً بأن الجمهور الفلسطيني بحد ذاته، إنما هو جزء من الإرهاب الدولي الذي ضرب في الكثير من عواصم أوروبا، ألمانيا وفرنسا وبلجيكا تحديداً، وأن إسرائيل منضمة إلى قوى محاربة الإرهاب الدولية وهي جزء لا يتجزأ من هذا المحور.
فشلت كل وسائل الاحتلال في لجم أو وقف مثل هذه العمليات، مع ذلك فإنها لا تريد أن تتعلم الدرس الضروري من وراء هذا الفشل، وهو أن هناك إمكانية واحدة لوقفها، حل سياسي يعيد للفلسطينيين حقوقهم بإقامة دولتهم على الأرض المحتلة العام 1967، وهو الحل الذي تبناه المجتمع الدولي وكفلته المواثيق والقوانين الدولية، استمرار الوضع الراهن غير مقبول وغير محتمل، وغير مجد، ولن يتمكن أحد من وقف هذا السيل من العمليات التي يقوم بها أفراد شباب في معظم الأحيان، رداً على ظلم تاريخي ولاحق، فالناظر إلى المستقبل بعيون هؤلاء الشباب، لا يرى إلاّ استمرار الاحتلال واستمرار الظلم وانعدام مستقبلهم في وطن نذروا أنفسهم لاستقلاله!!