دون مقدمات، واستغلالاً للمساحة، الأسباب هى:
أولا: المجمع الانتخابى
فى أمريكا الانتخاب على درجتين. تصويت مواطنين يختارون «مندوبين» عنهم عن كل ولاية، حسب عدد ممثلى الولاية فى الكونجرس بمجلسيه. وبالتالى من الوارد أن يفوز الشخص بأصوات المواطنين، ولا يفوز بأصوات المندوبين لو أن معظم أصوات المواطنين مركزة فى ولايات بعينها. وفى هذه الانتخابات، صوّت لدونالد ترامب أقل من 63 مليون ناخب فى شتى ولايات أمريكا مقابل 65.8 مليون لهيلارى كلينتون، ومع ذلك استطاع رغم ذلك التغلب على منافسته من حيث عدد الولايات التى حقّق الفوز فيها، مما سمح له بالانتصار أثناء تصويت المجمع الانتخابى إذ حصد 304 أصوات مقابل 227 لصالح «كلينتون».
ثانياً: استطلاعات الرأى الهادمة لنبوءاتها
استطلاعات الرأى بقدر ما تكشف توجهات الناس، فهى قد تسهم فى توجيهها أيضاً.
مثلاً لو قالت كل استطلاعات الرأى إن «فلان الفلانى» سيفوز فى الانتخابات يقيناً، فمن الممكن أن يحدث شىء من اثنين، أو الاثنان معاً بدرجات مختلفة من القوة: إما أن يعزف أنصار «فلان الفلانى» عن المشاركة، بحكم أن أصواتهم لن يكون لها قيمة، لأن «فلان الفلانى» سيفوز فى كل الأحوال. وهنا قد تحدث المفاجأة بأن يفكر معظم أنصار «فلان الفلانى» بهذه الطريقة، فيعزفون ويخسر. وهنا نقول إن استطلاع الرأى صنع نبوءة هادمة لذاتها (Self-defeating prophecy). بعبارة أخرى، لولا أن استطلاعات الرأى رجّحت بقوة «فلان الفلانى»، لكان قد فاز فعلاً.
وهناك من ناحية أخرى، أن تكون استطلاعات الرأى أقرب إلى نبوءة محقّقة لذاتها (Self-fulfilling prophecy)، حين يتبنى المتردّدون منطق «فلنلحق بالمنتصر» (join the winner)، فيُقبلون على التصويت بكثافة لصالح «فلان الفلانى» الذى رشحته استطلاعات الرأى للفوز.
هذه كانت العموميات، ونأتى إلى التطبيق.
أظهر استطلاع للرأى لقناة «إيه بى سى» (ABC) وصحيفة «واشنطن بوست» تقدم مرشح الحزب الجمهورى فى انتخابات الرئاسة، دونالد ترامب، على منافسته هيلارى كلينتون، وذلك للمرة الأولى منذ انطلاق الحملة الانتخابية قبل الانتخابات بستة أيام بالذات بعد تأثير إعادة فتح الـ«إف، بى آى»، ملف استخدام هيلارى كلينتون لإيميل شخصى لمناقشة قضايا فى غاية السرية.
وحصل «ترامب»، حسب الاستطلاع، على 46 فى المائة من أصوات المشاركين فى الاستطلاع مقابل 45 بالمائة لـ«كلينتون» على المستوى الوطنى، وهو شبه تعادل إحصائى. وأكدت استطلاعات أخرى كثيرة جداً تقدم «كلينتون».
وأشارت قناة «أى بى سى» إلى أن هذه النتيجة قبل أسبوع من الانتخابات الأمريكية لا تشير بالضرورة إلى سلوك الناخبين يوم الانتخابات، وقالت إن مرشحى الجمهوريين ميت رومنى كان يتقدم بنقطة على منافسه الديمقراطى باراك أوباما فى انتخابات عام 2012، وكذلك تقدم جون كيرى الديمقراطى على جورج بوش الجمهورى فى انتخابات عام 2004، ومع ذلك فقد خسر «رومنى وكيرى» الانتخابات، رغم تقدمهما فى آخر استطلاعات للرأى.
ثالثاً: تحالف «كلينتون» الهش مع الأفارقة واللاتينيين والشباب
تقول التقارير إن هيلارى كلينتون لم تنجح فى الاحتفاظ بتماسك الائتلاف الذى صنعه باراك أوباما، وكان ذلك جزءاً كبيراً من أسباب خسارتها.
كما فشل الناخبون الأمريكيون الأفارقة واللاتينيون والشباب بالذهاب إلى صناديق الاقتراع بأعداد كافية لدفع «كلينتون» لتصل إلى البيت الأبيض.
وفى حين فازت بالانتخاب وسط المجموعات الرئيسية التى استهدفتها حملتها، فإن أداءها كان دون المستوى الذى حققه «أوباما»، حتى فى أوساط النساء، وفقاً لبيانات الاستطلاع.
لم تحظَ «كلينتون» أيضاً بالشعبية نفسها بين الناخبين البيض كما حظى «أوباما»، إذ فازت بنسبة 37 فى المائة فقط من أصوات البيض. والمثير للدهشة، أن «ترامب» حصل على حصة أصغر قليلاً من المرشح الجمهورى السابق ميت رومنى فى 2012، إذ استولى «ترامب» على 58 فى المائة من الأصوات، مقابل 59 فى المائة لـ«رومنى».
وشكّل الناخبون من أصول آسيوية نسبة صغيرة تبلغ أربعة فى المائة من مجمع الناخبين، الذين كانوا أيضاً أقل تأييداً لـ«كلينتون»، مقارنة بـ«أوباما».
كما فشلت «كلينتون» فى حصد أكبر عدد ممكن من الناخبين الشباب، الذين توافدوا إلى منافسها السيناتور بيرنى ساندرز فى الانتخابات التمهيدية وللتصويت لـ«أوباما» قبل أربع سنوات.
أما بين الناخبات، فقد فازت «كلينتون» بنسبة 54 فى المائة من الأصوات النسائية، مقارنة بـ42 فى المائة التى حظى بها «ترامب».
رابعاً: الدولة العميقة والـ«FBI»
وهنا أنقل ما ذكره بيل كلينتون الذى اتهم مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى جيمس كومى، بالتسبّب فى خسارة زوجته فى الانتخابات الرئيسية.
وذكر فى لقاءات بوسائل إعلام أمريكية كثيرة أن زوجته كانت متقدّمة بسبع نقاط على الأقل عن منافسها «ترامب» فى استطلاعات الرأى، وكانت فى طريقها إلى كسب الانتخابات.
وأضاف: «لكن إعلان كومى فتح التحقيق مجدداً فى استخدامها بريدها الإلكترونى الخاص خلال عملها وزيرة للخارجية قبل 11 ساعة من يوم التصويت، أثر على نتائج الانتخابات».
وكانت كلينتون الزوجة وجهت الاتهام نفسه إلى رئيس «إف بى آى»، وقالت إنه سبب هزيمتها.
وهناك حيلة أخرى اتبعها الـ«إف بى آى»، وهى نشر تحقيق قديم أجراه بشأن مرسوم عفو مثير للجدل أصدره الرئيس الأسبق بيل كلينتون فى اليوم الأخير لولايته قبل أسبوع واحد من الانتخابات، والتقرير الواقع فى 129 صفحة، الذى أغلق فى 2005، يتناول مرسوم عفو أصدره «كلينتون» عن مارك ريتش، الملياردير الذى توفى فى 2013، وكان ملاحقاً فى قضايا تهرب ضريبى وتعاملات تجارية مشبوهة واستغلال النفوذ.
وقال براين فالون، المتحدث باسم «كلينتون»: إن توقيت النشر «غريب ما لم يكن قانون حرية الإعلام ينص على مهلة أخيرة» انتهت فعلاً مما يوجب نشر هذا التحقيق.
وأضاف «فالون»: «هل سينشر (إف بى آى) مستندات بشأن التمييز العنصرى الذى اتبعه (ترامب) فى بيع المساكن فى السبعينات؟»، فى إشارة إلى دونالد ترامب.
المثير للجدل أن مكتب الـ«إف بى آى» الذى أعلن قبل نحو 11 يوماً من موعد الانتخابات عن تحقيق جديد بشأن استخدام «كلينتون» للبريد الإلكترونى، قد أعلن لاحقاً أنه لم يجد أى دليل على جريمة جنائية قامت بها «كلينتون». لكن تقدّمها فى استطلاعات الرأى كان قد تراجع بالفعل بشدة.
خامساً: روسيا فى صالح «ترامب»
أياً ما كانت الأسباب، فقد كان تسريب ونشر بعض «الهاكرز» الروس للمراسلات الإلكترونية لفريق الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطى فى توضيح مدى «عدم كفاءة» الديمقراطيين، وهزّت ثقة الكثيرين من المتردّدين فيهم. وذكر تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» أن وكالات استخبارات فى الولايات المتحدة لديها «ثقة كبيرة»، فى تورّط روسيا فى عمليات قرصنة إلكترونية.
وخلص تقييم لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سى آى إيه» نقلته صحيفة «واشنطن بوست» إلى نتائج مشابهة.
ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسئولين كبار فى الإدارة الأمريكية قولهم إنهم واثقون، من أن القراصنة الروس قد تسللوا أيضاً إلى أنظمة الحاسب التابعة للجنة الوطنية للحزب الجمهورى، كما فعلوا مع الحزب الديمقراطى، لكنهم لم يكشفوا عن المعلومات التى حصلوا عليها من شبكات الحزب الجمهورى ولم يفوتوها إلى مواقع التسريبات.