عن تظاهرات الكهرباء ومأزق "حماس"..!

أكرم عطا الله
حجم الخط

مسيرة مخيم جباليا الضخمة التي أصبح منظموها مطاردين لأجهزة الأمن في غزة وتمت مداهمة منازلهم أكثر من مرة ومصادرة أجهزة من هذه المنازل .. لم ترفع شعارا واحدا ضد حركة حماس بل حرص منظموها على عدم استفزاز الحركة حتى لا يكون هناك مبرر لقمعها بالقوة أو لاعتقالهم، هذا ما رأيته كشاهد عيان شارك في المسيرة التي تجنبت الاحتكاك بالشرطة أو الأجهزة الأمنية.
المسيرة لمن يقرأ حركة التاريخ يدرك أن هذا هو النتاج الطبيعي الذي يسلكه مساره عندما تختنق الشعوب وتنعدم أبسط مقومات الحياة وتسحق كرامة البشر .. ولا يجد الشباب أي مستقبل فمن الطبيعي جدا أن يرتفع صوتهم قليلا قليلا إلى أن يصل حد الانفجار في الشارع، فالحياة في هذه المنطقة أصبحت أكثر صعوبة مما يتخيل الكثيرون، هناك جيل من الشباب تعلقت أحلامه على مقصلة السلطة الحاكمة ويرى نزيف سنوات عمره أمامه وهنا لا بد من لحظة يصبح فيها الصراخ هو المنطق الطبيعي للأشياء .. هكذا يفعل الشباب في قطاع غزة يطلقون صرخة مدوية لمن له أذنان للسمع.
التظاهرات الاحتجاجية بعيدة تماما عن القوى والفصائل الوطنية والإسلامية التي كانت قد دعت لمسيرة في اليوم السابق في نفس المخيم ولم تكن تذكر قياسا بمسيرة الشباب التي نأت بنفسها عن الفصائل لتعبر عن مزاح حقيقي للرأي العام، وهذا ما على حركة حماس أن تراه بعيدا عن القمع والحلول الأمنية. فالأزمات المتراكمة والمتفاقمة لدى جيل تنغلق أمامه كل الأبواب لا بد وأن تدفع إلى ما هو أبعد مما تعتقده الحركة وأجهزتها الأمنية.
نأي الشباب عن التواصل مع الفصائل ينفي تماما التهمة التي تقولها حركة حماس بأن هناك مؤامرة للإطاحة بها أو لإقصائها من المشهد السياسي، إذ نحن أمام مجموعة من الشباب تمكنوا من تحريك الشارع المحتقن بفعل أزمة الكهرباء ومجموعة الأزمات التي ولدها استمرار الانقسام وسيطرة "حماس" على قطاع غزة وعجزها عن تحقيق الحد الأدنى من مقومات الحياة هنا، والخشية من استمرار هذا الوضع مع تزايد سكاني يسير بمتوالية هندسية سنكون أمام انهيار مجتمعي كبير وهذا بحاجة إلى حسابات باردة لا إلى مطاردات أمنية وبوليسية ساخنة قد تتمكن من قمع التظاهرات واعتقال الشباب ومداهمة بيوتهم ليل نهار لكنها تبقي أسباب الانفجار الكامنة.
المسألة بحاجة لقراءة صحيحة لا يجدي فيها استمرار إلقاء اللوم على حركة فتح والسلطة، فتلك التهمة تكررت منذ عشر سنوات ولم تضع حلا بل أن الأمور تزداد تعقيدا. ومخطئ من يعتقد أن السلطة أو حركة فتح ستقدم خشبة الخلاص لحركة حماس أو أنها ستسعى جاهدة لإنجاح تجربتها، هذا هو الواقع الذي أمامنا، ما زالت السلطة خصما لحركة حماس فهل هناك سياسي يطلب مساعدة من خصمه؟ بل إن السلطة سعيدة بما يحصل في غزة وعلى حركة حماس أن تفهم أن الأولى تسعى جاهدة لإفشالها بكل الوسائل، هذا هو الواقع الذي يجب على الحركة أن تدركه وبعدها السؤال ماذا عليها أن تفعل في ظل تلك المعادلة؟
لن يسارع أحد لإنقاذ تجربة "حماس" في القطاع الذي أخرجته الحركة من غلاف السلطة وأصبح منطقة غير معروفة يصعب على الجميع التعامل معه. فالإسرائيلي لم تعد تربطه أي اتفاقيات تنظم علاقته بها ولا دول العالم حتى الصديقة لحركة حماس لا تصل إلى غزة دون المرور بالسلطة "قطر وتركيا نموذجا"، وأي شيء يخص قطاع غزة لا يمكن إلا أن يمر من خلال السلطة. هذا هو واقع العلاقات الدولية والاتفاقيات التي وقعت عليها السلطة باعتبار غزة واحدة من المناطق الخاضعة لها لكن حركة حماس طردت السلطة، صحيح أنها تمكنت من طرد وجودها في غزة لكنها لم تتمكن من طرد تحكمها بالقطاع وهنا مأزق الحركة.
هكذا الأمر بالنسبة لـ"حماس" أنها تدير منطقة يتحكم بها خصمها اللدود ومن هنا كان عليها أن تبحث عن حل لهذه الكتلة البشرية وسط هذه المعادلة التي يعني استمرار الحكم فيها هو استمرار خنق السكان وحرمانهم والقضاء على مستقبلهم والحكم عليهم بالموت البطيء لأن السلطة وحركة فتح لن تسعيا لمساعدة خصمها ليكون بديلا عنها في النظام السياسي ومن يعتقد بغير ذلك في حركة حماس ويستمر بالطلب من السلطة تقديم كل عوامل الإسناد لتجربة "حماس" عليه مراجعة فهمه السياسي وإدراكه للعبة السياسة وأوراقها.
الحقيقة أن استمرار المعاناة هنا في غزة هو نتاج عدم إدراك حركة حماس أنها الطرف الأضعف في لعبة السياسة وهنا تنزوي الإمكانيات العسكرية جانبا في معادلة بهذا التعقيد وأن لدى السلطة كل أوراق القوة في الحوار مع حركة حماس التي لم يستطع حتى أقرب أصدقائها إنقاذ التجربة، والمؤكد أنهم تسببوا لها بضرر كبير لكثرة الوعودات التي قدموها لها ما جعلها تتلكأ في حوار المصالحة في الوقت الذي كانت تمتلك فيه أوراق قوة عندما كانت الأنفاق مفتوحة تحت الحدود المصرية ويتم تشغيل محطة الكهرباء بالسولار المصري ورواتب موظفيها منتظمة.
تلك كانت لحظة تاريخية لم تلتقطها الحركة وضاعت وسط الوعودات وبعض المتشددين قصيري الأفق الذين اعتقدوا أن التاريخ يتحرك لصالحهم في خط ثابت دون إجراء ما يكفي من متطلبات السيناريوهات الأسوأ والتي لسوء حظها قد تحققت، عليها أن تدفع ثمنها، ففي علم السياسة هناك ما يعرف باللحظة والتي كان أفضل تعبير عنها لأحد مفكري القرن العشرين عندما قال "الأمس مبكر وغدا متأخر" إنها لحظة اتخاذ القرار في اللحظة المناسبة وعندما تتردد يصبح الوقت متأخرا تتجرد من أوراق قوتك وعليك حينها أن تدفع الثمن وكلما زاد الابتعاد عن اللحظة وتأخر القرار أكثر زاد الثمن .. هذه هي السياسة وتلك لعبتها الذكية.
هل توقف ملاحقات الأمن حركة بسطاء الناس والشباب اليائس؟ فتلك الحركة لها أسبابها ولن تنتهي إلا بانتهائها والمخيف أكثر ما كتبه المحلل السياسي إبراهيم المدهون القريب من دوائر صنع القرار في حركة حماس، نشر على صفحته على الفيسبوك إشارة الى أن دوائر ما قد تفكر في فتح معركة مع إسرائيل فيما لو استمرت الاحتجاجات .. أي علاجات من نوع القفز إلى الأمام وقد تحرف الأزمة لكنها لن تقضي على أسبابها .. هو أسلوب يصلح لوأد التظاهرات لكن لا يقدم حلولا للشعب.
الحل أن تدرك الحركة أن للشعب الحق في التعبير عن رأيه وأن تنصت لهذا الشعب وتفكر بحلول في وسط واقع في غير صالحها، واقع لا تملك فيه ما يحقق لها ما تريد.. والأسوأ أمامنا إن استمرت الحالة ولكن قبلها عليها التوقف عن ملاحقة منظمي التظاهرات لأنهم عفويون بلا أجندات ولا غيره..!