بعد سنة من الآن يكون قرن كامل قد مر على ميلاد «جمال عبدالناصر». بإيحاء الأرقام والرموز فإنها فرصة لا يصح أن تفلت لطرح الأسئلة الكبرى في تاريخنا المعاصر. وبإيحاء الأرقام والرموز فإن أسئلة كبرى أخرى تطرح نفسها حين يمر قرن على ثورة (1919).
قرن كامل من الثورات والانتفاضات والحروب والأحلام والإحباطات. في ذلك القرن اندلعت بمصر أربع ثورات.
الأولى، ثورة (1919) التي خرجت من رحم ما بعد الحرب العالمية الأولى، ونداءات حق تقرير المصير داعية إلى جلاء قوات الاحتلال البريطاني والحياة الدستورية، وقد وجدت في «سعد زغلول» صوتها المدوي.
والثانية، ثورة (1952) التي خرجت من رحم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودعوات التحرر الوطني والعدل الاجتماعي، وقد وجدت في «جمال عبدالناصر» رمزها الملهم.
والثالثة، ثورة «يناير» (2011) التي خرجت من رحم ثورة المعلومات والاتصالات، وطلب التحول إلى دولة ديمقراطية مدنية حديثة، لكن غابت عنها أية قيادة، أو أية برامج، وجرى اختطافها.
والرابعة، ثورة «يونيو» (2013) التي حاولت استعادة تطلعات «يناير»
طوال رحلة المئة سنة لم تكتمل في مصر ثورة، لكن المأساة كانت فادحة في الثورتين الأخيرتين. أجهضت ثورة (1919) بالتلاعب بالدستور والحكومات وحرمان حزب الأغلبية الشعبية «الوفد» بلا منازع من حقه في الحكم باستثناء مرات معدودة، لكن آثارها في حركة المجتمع والثقافة والفنون والتعليم جعلت مصر أكثر ثقة في نفسها ومستقبلها.
بروح نقد الثورة في أربعينات القرن الماضي، بزغت روح جديدة وأفكار جديدة وتيارات فكرية جديدة مهدت الطريق ل (23) يوليو التي أنجزت وحاربت وانتكست.
وبروح النقد، التي تولدت بعد نكسة يونيو (1967)، تأكدت قيم المشاركة السياسية ودولة المؤسسات، بجوار إعادة بناء القوات المسلحة من جديد على أسس علمية حديثة، وإبعادها عن أي تورط في السياسة الداخلية.
أرجو ألا تهدر فرصة إحياء الذاكرة العامة، كما الحوار الجدي، في مئويتي ميلاد «جمال عبدالناصر»، وثورة (1919). ولعلها فرصة جديدة لتأكيد تكامل ثورات مصر، وهذه حقيقة يصعب نفيها بثأر أو ضغينة.
المناسبتان التاريخيتان لا تخصان تياراً من دون آخر، فالإرث الوطني مشترك والحق في المعرفة عام.
ماذا جرى في حرب المئة سنة على مصير أكبر دولة عربية؟هذا سؤال في التاريخ ووثائقه. لماذا كان التراجع سمة عامة بعد فورة البدايات المبشرة؟ وهذا سؤال في الحاضر وأزماته.
إن أسوأ اقتراب من ملفات التاريخ المغالطة في الحقائق والثأر بالتهجم. باستثناء يوليو، فإن ثورة أخرى لم تحكم، وقد تعرضت أكثر من غيرها إلى تحديات ومخاطر ومحاولات اغتيال لزعيمها «جمال عبدالناصر».
عندما رحل في الثانية والخمسين من عمره، طرحت تساؤلات حول ما إذا كانت «إسرائيل» قد وصلت إليه بالسم، من دون أن تكون هناك إجابة يقينية.
لماذا جمال عبدالناصر؟ في استهدافه حياً وميتاً شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره.
إن أي كلام يتجاهل الانقلابات الاستراتيجية والاجتماعية على مشروع «جمال عبدالناصر»، أو يلحق به سياسات «أنور السادات» و«حسني مبارك» جهل فاضح بالتاريخ وتزوير للحقائق، يستهدف الذاكرة العامة، حتى يكفر المصريون بأي معنى حقيقي للثورة وحقوقهم الطبيعية في التحرر والاستقلال والعدل.
إذا كانت هناك قيمة حقيقية لمئوية ميلاد «جمال عبدالناصر»، في يناير/كانون الثاني من العام المقبل، فهي رد اعتبار التاريخ، وإعادة فحصه من جديد بالوثائق والمستندات، لا بالأهواء وتصفية الحسابات مع أكثر الثورات المصرية إنجازاً بالحساب الاجتماعي، وإلهاماً بالحساب الوطني.
لا يعني ذلك إضفاء أية عصمة من النقد، فلا قداسة لثورة أياً كان إنجازها، ولا لرجل أياً كان دوره. نقد يوليو حق مؤكد للذين يناصرونها قبل الذين يناهضونها.
إنكار ذلك جريمة بحق المستقبل.
كيف صعدت يوليو.. ولماذا انكسرت؟
ما دور العوامل الخارجية، التي لا يمكن إنكارها؟.. وما مدى مسؤولية طبيعة النظام في الانكسار المروع؟
في التناقض ما بين المشروع واتساعه على قيم التحرر الوطني والعدل الاجتماعي، وبين النظام وضيقه بالتنوع السياسي كان ممكناً الانقضاض على يوليو بعد شهور من رحيل «جمال عبدالناصر».
النقد والمراجعة ضروريان لاتصال الحركة إلى المستقبل، فلا يمكن لبلد أن يتقدم خطوة واحدة للأمام وهو ينكر تاريخه، حيث حارب وضحّى وانتصر وانهزم، أو يمتنع عن التصحيح والتصويب في الأفكار والتصورات.
هناك فارق بين النقد والمراجعة وبين التسطيح والتجهيل، كما يتبدى في «نظرية الستين سنة» التي يتبناها الدكتور «محمد البرادعي» وآخرون.
بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، فإن «جمال عبدالناصر هو الحقيقة الأساسية في العصور الحديثة».
لخصت تجربته قيماً أساسية يستحيل حذفها.
بالنظر التاريخي، فهو الأهم في التطلع إلى الوحدة العربية، رغم ما لحق التجربة المصرية السورية من انفصال.
وبالنظر الاجتماعي، فإن تجربته هي الأعمق بالتاريخ المصري كله منذ فجر الضمير، وهو في الذاكرة العامة «أبو الفقراء».
لماذا تراجعت مكانة مصر بفداحة بعد «عبدالناصر»؟ السؤال نفسه فيه اعتراف بأن السياسات بعده اختلفت، وأن النظم التي تلته انقضّت على إرثه.
كان الهدف توفير ظهير اجتماعي لمشروع السلام مع «إسرائيل». هذا جوهر ما جرى من انقضاض على عبدالناصر ومعاركه.
القضية ليست «جمال عبدالناصر»، فالرجل مضى إلى رحاب ربه منذ أكثر من ستة وأربعين عاماً، بقدر ما هي سلامة الذاكرة الوطنية. والقضية ليست ثورة يوليو، بقدر ما هي منهج النظر إلى ثورات مصر كلها في حرب المئة سنة.
عن الخليج الاماراتية