قد يصاب الناس بالتعصب والجهل تحت ضغط العماء السياسي والدفاع الأهوج عن المواقف، مثلما يحدث حين يقوم أحدهم بالتطاول على المخيم وسكانه؛ من أجل أن يفند مقولات خصومه ومعارضيه. وبالطبع يمكن أن تصدر هذه المواقف في حمية الغضب وتحت ضغط الصراخ والعواء، لكنها في كل الأحوال لا يمكن لها أن تكون ذات صبغة وطنية ولا تنتسب إلى حكاية النضال الوطني، وهي بكل الأحوال، حتى لا يتم تضخيمها، لا تمس مكانة المخيم في هذا النضال، ولا ترتقي لأن تكون إلا هباءة ضالة أمام الجبل الشامخ الذي يمثله المخيم في وجدان الفلسطينيين، كونه حارساً لحكاية العودة المنتظرة التي لن تدوسها جرافات الزمن، ولن تغطيها أتربة النسيان.
المخيم الفلسطيني حكاية كبيرة، بل هو الحكاية بحد ذاتها. فلا تستقيم الرواية الفلسطينية عن النكبة دون الرجوع إلى المخيم، كما لا يمكن الحديث عن النضال التحرري من أجل استعادة الأرض والبلاد دون الوقوف على دور المخيم في هذا النضال، ليس بوصفه مخزوناً إستراتيجياً يمد الثورة بالمناضلين، بل كونه حافزاً للقفز عن أسوار الواقع الراهن بحثاً عن المستقبل، وعليه فإن الحكاية الفلسطينية المعاصرة هي حكاية مخيم يبحث عن زواله، يبحث عن لحظة انتهائه من خلال تحقق فعل العودة بعد التحرير. الحكاية الفلسطينية التي تبدأ بالمنفي ولا تنتهي إلا بنفي المنفي. والمخيم هو جوهر هذا المنفي الفلسطيني حتى حين يكون موجوداً داخل فلسطين. فلا مكان إلا المكان. والناس لا تنتسب إلا حيث تكون ذاكرتها وذاكرة أجدادها.
ولأسباب كثيرة فإن المخيم هو النقيض الكامل لكل أحلام الناس عن قراهم ومدنهم، وهو رغم ذلك مكانهم الأنسب للبحث عن الحل النقيض المتمثل بالعودة، وحين تقف الذاكرة عاجزة عن جعل الماضي حاضراً، فإن البحث عن المستقبل يكون بحاجة لواقع لا بد من نفيه من أجل تحقيق الواقع الآخر. والمخيم الفلسطيني، بهذا التوصيف، هو حامل شعلة الحلم، وهو وهجها المستمر، ونارها المتقدة، ولا يوجد بحث عن المستقبل الفلسطيني لا ينطلق من المخيم القادر على أن يصون الحلم ويحافظ على الذاكرة.
لسنا بحاجة للتدليل على مكانة المخيم في الحياة السياسية الفلسطينية، كما لسنا بحاجة لأن نثبت لأحد أن الفعل النضالي الفلسطيني يبدأ في المخيم، لأن حكاية المخيم أكبر من أن يتم صهرها في نقاش عابر، وهي أكثر شمولية من أن يتم اختزالها بمقال. لكن من المهم أن يتم التذكير دائماً بما للمخيم من دور في الحكاية الفلسطينية المعاصرة، وبما يمكن أن يكون له من دور دائماً حتى تنتفي الحاجة لوجوده.
من هنا كان الإصرار الفلسطيني الرسمي والشعبي على الحفاظ على المخيمات وعدم هدمها وتسويتها، ليس لأن هناك من يدمن البؤس والأماكن الضيقة، ولكن لأن هؤلاء يفضلون أن يحافظوا على شعلة الحلم ووهج المستقبل، ولأن زوال المخيم يزيل الكثير من دلائل النكبة؛ فالمخيم الشاهد الأبرز على جرائم الاحتلال خلال العام 1948 وما اقترفه بحق الفلسطينيين من مذابح، وما قام به من تشريد للسكان العزل تحت تهديد السلاح وإعمال القتل والذبح، ولأن المخيم هو من يوثق كل ذلك فإن وجوده ضرورة وطنية.
من هنا كان الناس وكانت القيادة الوطنية ترفض كل الأفكار الهادفة إلى تفكيك المخيمات. حتى مع ضيق المخيم وتوسعه إلا أن الحفاظ عليه ظل دائماً ضرورة وطنية. صحيح أن سلة الحقوق الوطنية لا ترتبط إلا بتمسك أصحابها بها، وأن وجود الناس وعيشهم خارج حدود المخيم لا ينفي حقهم في العودة، إلا أن الحفاظ على المخيم يظل في قلب هذا التمسك بالحق.
ومن هنا كان البحث الإسرائيلي الدائم عن تفريغ المخيمات ومحوها ليس من الوعي بل من الوجود. وعليه فقد اعتمدت مشاريع إسرائيلية كثيرة على إعطاء سكان المخيمات قطع أراض للبناء عليها مقابل هدم بيوتهم في المخيمات. وكان شارون رائد هذه الأفكار والتي نتج عنها ليس تفكيك المخيم، بفضل وعي الناس السياسي وحسهم الوطني، بل توسع المخيم وتمدده. وعليه فشلت كل المشاريع الإسرائيلية في القضاء على المكان الفلسطيني الذي ظل وسيظل شاهداً على جريمة التهجير القسري الذي قامت به العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل. الأمر أكبر من مجرد موقف سياسي وردة فعل. إنه يتعلق بجوهر الحكاية الفلسطينية.
خلال كل السنوات التي تلت النكبة نجح المخيم في تطوير هويته الخاصة به. فالمخيم الفلسطيني في كافة أماكن تواجد المخيمات الفلسطينية داخل الجغرافيا أو خارجها يتشابه لدرجة كبيرة، في الشكل والعادات وتوزيع البيوت التي تتوزع على حارات تضم كل حارة اللاجئين من من القرية ذاتها، إلى أحلام الناس وحكاياتهم. الهوية الخاصة بالمخيم في قلبها، الثورة والنضال من أجل تحقيق الحلم الأسمى لسكانه بالعودة إلى قراهم ومدنهم. من هنا فإن المخيم على تنوعه ظل واحداً، وظلت صورته واحدة: إنها الصورة التي تختزل المسيرة الفلسطينية منذ سبعة عقود وتختزل المستقبل في مقاربات واضحة.
لا يمكن تصور الحكاية الفلسطينية دون استرجاع حكاية المخيم منذ ولادته حتى يحرس الناس ذاكراتهم ويحافظوا على وهج روحهم الباحثة عن العودة.
بالطبع سيكون من المعيب التذكير بما جري من تطاول في ظل النقاش الحزبي على المخيم. المخيم الذي حمل وهج الثورة وأطلق شرارة الانتفاضة، وتحمل كل عذابات العدوان الإسرائيلي المستمر على شعبنا الفلسطيني. وسيكون من المخجل بحق أنفسنا أن نفقد المقدرة على التمييز. وهذا بدوره لا بد أن يدق ناقوس الخطر ويدلنا إلى أي مستوى يمكن للانقسام أن يوصلنا. يمكن له أن يوصلنا إلى أن نسب ذاتنا ونتطاول على حكايتنا الشخصية.