في مقالتي «هجوم على الشيعة»، حاولتُ أن أبين تهافت الفكر الطائفي وضرره على الأمة، وتهديده للسلم المجتمعي والعالمي.. ولم أسعَ لإثبات أن طائفة ما هي التي على الحق، وغيرها على الباطل، فهذا أمر موكل إلى الله وحده.. وفي أي مقالة أكتبها لا أهاجم قناعة أحد، ولا أنتقص من شأن أي فكرة، باستثناء الأفكار التي تدعو للكراهية والتعصب والعنصرية والعنف.
ومن خلال ردود الفعل على المقالة تبين لي أن هناك التباسا في مفهوم الطائفية لدى البعض، والسبب ربما أن الطائفية ذات تشكّل زئبقي، ولها قدرة عجيبة على التخفي والتمويه؛ فالطائفي، ومهما كان متعصبا فإنه لا يعترف بطائفيته، بل وينكرها ويتهم بها خصومه، إلى أن تتحول «الطائفية» إلى اتهام أو ردٍ على اتهام وبشكل متناوب، فهي لأنها بغيضة يتبرأ منها الجميع، علما أن الجميع يمارسها بوعي أو دون وعي.. فإذا اعتقد أي شخص أنه ينتمي للطائفة الصحيحة، وغيره على باطل، وتعصب لطائفته، وبدأ بمهاجمة الطوائف الأخرى، فإنه دون ريب طائفي وبامتياز.
وهذا لا يلغي ولا يتنافى مع حق كل إنسان بأن يؤمن بعقيدته، وأن يتمسك بها، وأن يدافع عنها، فهذا أمر طبيعي جدا، ولكن، دون كراهية وعنف، وتكفير للآخرين.. وفي هذا السياق، يقول «برهان غليون»: «إن مشاعر الإيمان الديني وأواصر القربى داخل الطائفة هي تعبير عن وضع سليم وطبيعي في كل المجتمعات؛ فالمجتمع مكون من أفراد موزعين بين جماعات عديدة، ومن الطبيعي أن يشعر كل فرد بتعاطف أكبر مع الأفراد الذين يشاركونه العقيدة أو الثقافة، ومن دون هذا التضامن وتلك الأُلفة الخاصة اللذين يجمعان بين أفراد الجماعة الواحدة لن يكون هناك أي معنى ولا مضمون للحياة الاجتماعية».
بمعنى أن تعزيز التكافل والتضامن داخل المذهب أو الطائفة أمر مشروع.. أما تقوقع الطوائف وانكفاؤها الداخلي وتعصب أفرادها فيؤدي إلى بروز الطائفية، بمعنى أن الطائفية تنشأ عندما تجعل إحدى الطوائف من مشاعر التضامن والتكافل وسيلة لتستأثر بها على حساب الآخرين، أي عندما يبدأ أصحاب المصالح بتحويل هذه المشاعر إلى وسيلة لتحقيق أهدافهم والدفاع عن امتيازاتهم الجديدة، ونقطة استقطاب لتكتل قوامه الفكر الطائفي المغلق والمصلحة الذاتية الأنانية.
يقول البعض إن أهل السنة ليسوا طائفة، بل هم الأمة الإسلامية.. وهذا علميا خطأ؛ فالأمة هي مجموعة من الناس تعيش معا وتتشارك قيما وثقافة متجانسة، ولها تاريخ ومصير مشترك (اللغة عامل مهم ولكنه ليس حاسما)، وبالتالي فإن الأمة تحتوي على طوائف وملل وأقليات بالضرورة، تعيش معا بأمن وسلام.. وعندما تكون العقيدة العامل الرئيس، وربما الوحيد لترابط أي جماعة فإنها تصبح طائفة، فالمسلم الصيني يلتقي ثقافيا وروحيا مع المسلم المصري مثلا، ولكن هذا لا يجعل منهم أمة واحدة.
وعندما نقول إن الأغلبية السُنية هي الأمة الإسلامية، فإن هذا الطرح يجعل منا طائفيين، لأننا سننظر للآخرين بوصفهم يحملون عقائد منحرفة وضالة.. وبالتالي سيكون هذا مدخلا للكراهية والعداء.. ودليل ذلك أن الكثيرين يعلنون بوضوح أن السُنّة هم الذين يمثلون الله والقرآن والنبي.. وهؤلاء لم يكتفوا بهذا الإعلان، بل ترجموه فعليا على شكل اضطهاد وقمع وإقصاء وحروب وغزوات وقتل وتفجير بحق الطوائف الأخرى (أو على الأقل تساهلوا مع من يقوم بذلك).. علما أن الشيعة وبقية الطوائف الإسلامية تقول وتقوم بنفس الشيء تقريبا، ولديها تبريرات لذلك.. والسبب في هذه الفوضى والفتنة أن مفهوم الطائفية (كما أسلفنا) مفهوم ضبابي، ما حال دون فهمه بشكل موضوعي، ما منَح الطائفيين الفرصة لاستغلال أبناء الطائفة للقضاء على الطوائف الأخرى، ثم تبريرهم لذلك بدم بارد، والاختفاء خلف ستار الجهاد، وادعائهم بامتلاك العلاقة الحصرية مع الله، وحصولهم على التفويض المباشر من لدنه للقضاء على أعدائه (الذين هم بالطبع أعداء الطائفة).
لي صديق ذو أخلاق عالية ونفس كريمة وقلب طيب.. وفي كل مرة نتناقش في الأمور السياسية يظل هادئا، ولكنه بمجرد ذكر الشيعة أو العلويين يصبح إنسانا آخر، كمن مسته صعقة كهربائية، وأستغرب من حجم الكراهية والعنف المختزنة في داخله ضد أي طائفة أخرى.
وأتوقع أنه لو كان في مواقع المواجهات وأتيح له المجال فإنه سيمارس عنفا لا يقل وحشية عما نشاهده من الجماعات المتشددة.
لا أظن صديقي هذا يمثل حالة فردية، لننظر حولنا بموضوعية، سنجد أن الكل بات محتقنا ومشبعا بالكراهية، وبالفكر الطائفي، وعلى استعداد لإقصاء الآخرين بأي شكل.
البديل عن الطائفية هو التسامح، والتسامح الحقيقي لا يكون مجرد إحسان وكرم من الطائفة الكبرى والمسيطرة على الدولة تجاه الأقليات، فهذا سلوك استعلائي حتى لو كان ظاهره حسنا، كما أنه يعتمد على الأخلاق والضمير، وهذه مسائل نسبية ومطاطة.
التسامح يجب أن يكون محميا بالقانون.. بمعنى أن كل طائفة مهما صغر شأنها أو كبر، ومهما كان موقف البعض من عقائدها من حقها أن تمارس حياتها وشعائرها بحرية ودون مِنّة من أحد.. كأي حق من حقوق المواطَنة.
والبديل عن الطائفية هو نبذنا للكراهية والعودة لإنسانيتنا، أي أن نحب ونحترم أي إنسان مهما كانت طائفته، أو كان بلا طائفة، لمجرد أنه إنسان، طالما أنه ملتزم بالقانون، ولا يؤذي الآخرين.. ولنترك مسألة حسابه وصحة عقيدته إلى خالقه.
أغبى ما في الطائفية أنها تعتمد منهج التعميم (لغة الحمقى)، فمثلا، لأن «العلقمي» سلَّم بغداد للمغول صار الشيعة كلهم خونة! وهكذا يتم تقييم الطوائف والشعوب والملل، وننسى أنه في كل طائفة تكون الأكثرية عادة الناس الطيبين البسطاء.. ونتناسى أن الجماعات الإنسانية مهما تنوعت واختلفت مذاهبها يمكنها أن تعيش معا بسلام ومحبة.
يعيش العالم اليوم حالة جنون غير عادية: حروبا ودمارا وقتلا وتشريدا وإرهابا.. حتى أصبح الكوكب برمته مكانا غير صالح للعيش، والسبب انجرار الكل خلف مشاريع قوى الشر التي أرادت تقسيم العالم ونهب خيراته.. إذا أردنا العيش الكريم لنا وللآخرين، فلنتخل عن تعصبنا ونرجسيتنا، ولننثر بذور المحبة والسلام.