مؤتمر باريس واحتجاجات غزة: الحلقة المفقودة

أشرف العجرمي
حجم الخط

اختتم مؤتمر باريس أعماله يوم الأحد الماضي (15/1/2016) وصدر عنه بيان مهم لم يحمل في الواقع أية مفاجأة، حيث كان من المتوقع أن يتضمن ما ورد في نصه والذي تم تسريبه والحديث عنه في وسائل الإعلام. وهذا في الواقع لا يقلل من أهمية المؤتمر ومخرجاته، على الرغم من محاولات التشكيك بجدواه من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الأطراف الأخرى، فهو تظاهرة دولية كبيرة من أجل السلام عبر عنها حضور 70 دولة من مختلف أرجاء العالم وعلى رأسها الدول الكبرى والمؤثرة دولياً. وهو يؤكد على مرجعيات التسوية السياسية القائمة على حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران منذ العام 1967، ويتبنى قرارات مجلس الأمن بما فيها 242و338 و2334، ويتضمن آليات للمتابعة من خلال فرق العمل التي تم ذكرها في مناسبات سابقة. والأهم التزام أوروبا بدعم العملية السياسية بمشاركة متخصصة ورفيعة المستوى حسب نص البيان، بمعنى أن أوروبا قد تقوم بدور أكبر مما قامت به في مراحل سابقة تجاه عملية السلام. ولكن مع ذلك يبقى السؤال: ما هو مصير مخرجات المؤتمر بعد تولي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب مقاليد الحكم في واشنطن، وبعد الانتخابات العامة في فرنسا والتي ستشهد غياب الرئيس فرانسوا هولاند؟ وهل سيبقى التزام فرنسا وأوروبا كما هو تجاه موضوع البحث عن التسوية؟
على كل حال، كل حراك دولي مفيد، وهذا يشمل تبني مجلس الأمن لقرار 2334 وخطاب وزير الخارجية الأميركي جون كيري في 28/12/2016، ومؤتمر باريس. فهذه التطورات تصب في مصلحة تأكيد المرجعيات الدولية للعملية السياسية وسحب الشرعية عن السياسات الاحتلالية وعلى رأسها الاستيطان والتهويد الذي تمارسه إسرائيل في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وفي مقدمتها القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين العتيدة.
وللأسف تزامن انعقاد مؤتمر باريس مع ظروف فلسطينية داخلية صعبة ومأساوية وخاصة في قطاع غزة الذي حظي بالاهتمام في البيان الختامي للمؤتمر. والحراك الذي شهده القطاع احتجاجاً على انقطاع الكهرباء بشكل كبير هو تعبير عن عدم قدرة المواطنين على تحمل الوضع القائم في غزة والمستمر منذ عام 2007، أي منذ انقلاب حركة "حماس" على السلطة وسيطرتها بالقوة على قطاع غزة وفصله عن الضفة المحتلة وفرض نظامها الخاص على المواطنين.
ومنذ اليوم الأول لسيطرة "حماس" على غزة والمواطنون في القطاع يعيشون وضعاً مأساوياً بدأ بممارسة قمع دموي سقط فيه مئات القتلى والمصابين الذين جزء منهم تعرض لتنكيل لم يسبق له مثيل أدى إلى تحول قسم كبير من الإصابات إلى إعاقات جدية. وهذا القمع والتنكيل شكل سابقة خطيرة في العلاقات والخلافات الفلسطينية- الفلسطينية. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كانت "حماس" سبباً في الشروط الكارثية التي عاش في ظلها أبناء قطاع غزة، وهذا لا يتعلق فقط بقمع ومصادرة الحريات وفرض نمط معين من القوانين والأنظمة على المواطنين، بل كانت كذلك السبب في الحصار الذي خضع له قطاع غزة لمدة تقرب من تسع سنوات متواصلة وسبباً مباشراً في الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة والتي حصدت مئات الضحايا بين شهيد وجريح، هذا عدا عن الدمار الذي لحق بالقطاع والذي لا يزال شاهداً على هذه الكارثة. ونتيجة لهذه الظروف القاهرة لا يزال المواطنون في قطاع غزة يعانون من الحصار والإغلاق وتحول قطاع غزة إلى سجن كبير يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة مثل الماء والكهرباء وحرية الحركة ناهيكم عن غياب الحريات وعلى رأسها حرية التعبير عن الرأي.
ولعل مشكلة انقطاع الكهرباء من أكثر المشاكل إلحاحية في غزة، خاصة بعد أن اعتاد الناس على جدول الكهرباء الذي في أفضل حالاته يشمل الحصول على الخدمة 8 ساعات في اليوم. والتطور الذي لم يعد المواطنون يحتملونه هو انخفاض ساعات الكهرباء من 8 إلى 3 ساعات يومياً في هذه الأيام حيث الشتاء والبرد والظروف القاسية. وهذه المشكلة كانت المحرك الرئيس للاحتجاجات التي حصلت في أكثر من موقع في غزة.
 لسنا هنا في كشف حساب مع "حماس" على المآسي التي تسببت بها للشعب الفلسطيني والضرر الجسيم الذي حصل بسبب الانقلاب والانقسام الذي تغذيه إسرائيل وتستفيد منه. ولكننا في الواقع نعيش في لحظة مصيرية تتطلب من "حماس" أن تراجع مواقفها وخياراتها لتقف على الاقل مرة منذ نشأتها مع الشعب وتعمل لصالح قضيته الوطنية. ومحاولة إلقاء التهمة على أطراف أُخرى لم تعد مجدية، فما يحصل في القطاع هو مسؤولية "حماس" المباشرة حتى لو كان هناك قصور من السلطة الوطنية فـ"حماس" هي التي تسببت فيه، وهي مسؤولية الكل الوطني الذي سمح باستمرار هذا الواقع.
نحن نحقق نجاحات على المستوى الدولي ونكرس الاعتراف بحقوقنا ولكننا نتراجع بصورة كبيرة على المستوى الداخلي في معالجة الانقسام وفي غياب الحريات وممارسة القمع. وما قامت به "حماس" في غزة من قمع للمتظاهرين واعتقال لعدد كبير منهم والتلويح بممارسة أشد العقوبات وإصدار فتاوى تتهم المتظاهرين من أجل حقهم في الحصول على الكهرباء كباقي البشر بالردة التي تستوجب القتل، واللغة الوضيعة والمنحطة التي تفوه بها بعض الحمساويين تجاه ابناء شعبهم وخاصة تجاه المخيمات بعض مظاهرة مخيم جباليا الضخمة، هو دليل على أن "حماس" ليست في وارد الذهاب نحو الوحدة وكل ما قيل حول المصالحة لا يعدو عن كونه شعارات وضريبة كلامية فارغة. وهناك لا تزال حلقة مفقودة للربط بين النضال السياسي والدبلوماسي وبين الاستعداد الحقيقي لدولة فلسطينية مستقلة يتم بناؤها على الأرض، وهي بعيدة بعد السماء عن الأرض في ظل الانقسام ووجود كيانين مختلفين.