لا يمكن للباحث المتفحص أن يفصل الصعود المدوى المفاجئ لتنظيم داعش الإرهابى فى العالم، خلال السنوات الخمس الأخيرة، عن الحديث عن اعتماده الكبير على وسائل الإعلام، سواء التابع له، أو حتى المناوئ له، حيث استطاع من خلالهما أن يرسم صورته «المرعبة» فى العالم.
ويمكن أيضاً للباحث رصد أنماط التحول فى الإعلام الجهادى، بالمقارنة بما لجأ إليه تنظيم داعش، وما كانت تفعله التنظيمات الراديكالية الأخرى على سبيل المثال، ليكتشف فى النهاية أن أكثر من نصف انتصارات داعش إنما كانت صنيعة الإعلام الخاص به، بل استقطابه جنوده عن طريق الإعلام ووسائل التواصل الإعلامى، وإرهابه خصومه عن طريق الإعلام وصنع فيديوهات خاصة وتصديرها عبر آلاف المنصات، فى حين كان الإعلام هو رد الفعل لما تقوم به الحركات الأخرى (تنظيم القاعدة على سبيل المثال).
أولاً: تطور الإعلام الجهادى:
للوصول إلى تحليل ما وصل إليه تنظيم داعش من تطور إعلامى، لابد من العودة إلى الخلف قليلاً لمعرفة كيف استطاعت الحركات الجهادية تطوير أنفسها إعلامياً:
1- مرحلة السبعينيات فى مصر والثمانينيات فى أفغانستان: بدأت الحركات الجهادية عملها فى مصر فى السبعينيات، وانتهى الأمر باغتيال الرئيس المصرى أنور السادات، ثم انتقلت تلك الجماعات إلى أفغانستان فى محاربة ما كان يسمى وقتها «الشيوعيين الكفار»، وكانت هذه المرحلة تتميز بمحدودية تواصل التنظيمات الجهادية مع مناصريها والأشخاص عبر الوسائل التقليدية، مثل: منابر المساجد، والخطب، والمنشورات، والمجلات الورقية، والأنشطة الاجتماعية، مع المجتمعات المحلية.
2- عقب «أحداث 11 سبتمبر»، التى تزامنت مع بدء انتشار الإنترنت حول العالم، بدأت هذه الجماعات بإنشاء آلاف المواقع الإلكترونية للتواصل مع الأشخاص، وكذلك عبر المنتديات الإلكترونية المغلقة.
كما حدث تطور مهم ولافت، وهو فى إدراك تلك الجماعات أهمية الإطلال من خلال شاشات الفضائيات، ومن هنا بدأ زعيم تنظيم القاعدة الراحل، أسامة بن لادن، فى إرسال خطبه ورسائله وبثها عبر قناة «الجزيرة»، منبر «القاعدة» وقتها، واستطاع «القاعدة» من خلال تلك الرسائل الوصول إلى ملايين المشاهدين حول العالم، فضلاً عن إيصال رسائل مشفرة لأنصاره.
3- بعد الحرب على العراق 2003، بدأ «القاعدة» وفروعه فى العراق فى توظيف مواقعها، تزامنًا مع بدايات ظهور مواقع التواصل الاجتماعى، وتُعتبر صفحة «جهاد الأمة» من أهم الصفحات الإرهابية على «فيسبوك»، وترتبط تلك الصفحة بروابط لعددٍ من المنتديات والمواقع، مثل: منتدى «شموخ الإسلام»، وهو مركز يحتوى على العديد من المواد الجهادية، التى توزع على المواقع الإرهابية، ويُعتبر حلقة وصل بين مستخدمى «فيسبوك».
وحدث تحول مهم وقتها فى الاستراتيجية الإعلامية والجهادية للإرهابيين من خلال ما قدمه أحد أعضاء القاعدة- واسمه أبومصعب السورى- فى مؤلف عنوانه: «الاستراتيجية اللامركزية للجماعات الجهادية» فى 1600 صفحة على الإنترنت، يهدف إلى إثارة انتفاضة عالمية من خلال قيادات وخلايا عنقودية وفردية، مشيرًا إلى أن التقاليد السابقة المتمثلة فى التنظيم الهرمى للجماعة الإرهابية كانت عائقًا لاستمرار أنشطة تلك الجماعات، فالقبض على عضو واحد يُمكن أن يُعرّض التنظيم بأكمله للانهيار، ولذا اقترح ما يُعرف بـ«الجهاد الفردى» فى إطار خلايا عنقودية ليست متصلة بالقيادة الأم، مؤكدًا أن تحقيق ذلك يتطلب التركيز على خلق مشاعر مشتركة، وهذا ما دفعه إلى التأكيد على دعم الأيديولوجيا الإسلامية الجهادية والهوية المشتركة تجاه قضية واحدة، وبالتالى وحدة الهدف والقضية دون أن تكون هناك أى صلات تنظيمية. كما اقترح التركيز على الجهاد فى بلدانهم المقيمين فيها. هذا الأمر ساهم فى ظهور ما يُعرف بـ«الجهاد بلا قيادة»، وبالتالى أصبحت هناك خلايا تقوم بعمليات دون أخذ أوامر من القيادة المركزية لـ«القاعدة». وبالتالى بدا وكأن الإنترنت بمثابة «جامعة إرهابية» تقوم بتلقين المتطرفين التقنيات والمعلومات والأفكار المتطرفة والطرق الإرهابية الجديدة، مثل «دليل سموم المجاهدين»، الذى يحتوى على وصفات محلية لتصنيع مواد وغازات سامة، و«موسوعة الجهاد»، ومجلة «Inspire»، التى تتضمن كيفية صناعة الأسلحة والمتفجرات فى أماكن بسيطة، ومثال على ذلك، التقارير والتحريات الأمنية عن تفجير ماراثون بوسطن فى عام 2013، حيث أكدت التقارير والتحريات أنهم استفادوا من مجلة «inspire» فى تنفيذ تلك العملية الإرهابية.
4ـ إعلام داعش: استفاد تنظيم داعش من كل ما مضى، فاستفاد من الخلايا العنقودية فى صنع «الذئاب المنفردة»، كما استفاد من درس الوصول الإعلامى عبر الفضائيات، عبر استغلال الوكالات الموجودة على الأرض، كما استفاد من كل ما سبق فى صنع آلته الإعلامية الخاصة، التى تضمنت آلاف الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعى، ومجلات إلكترونية بلغات متعددة (أبرزها مجلة دابق)، وآلاف الفيديوهات التى تدعو الشباب إلى اللحاق به، وصناعة الصورة الذهنية، من خلال صفحات «فيسبوك» و«تويتر» وموقع «إنستجرام».
أما كيف صنع استراتيجيته وحدد أدواته؟ فهذا حديث آخر.