تستقبل البسطات المليئة بالفاكهة الطازجة القادمين إلى قلنسوة. في الايام الجيدة يسمي السكان مدينتهم «ارض الورد والتوت»؛ فالكثير منهم يزرعون في الدفيئات لكسب الرزق. ولكن هذه الايام في قلنسوة ليست اياماً جيدة. ففي الاسبوع الماضي، 10 كانون الثاني، تم هدم 11 بيتا غير مرخص في المدينة. ومنذ ذلك الحين وقلنسوة تحتج. كثير من فناجين القهوة تم تقديمها في خيمة الاحتجاج التي أقيمت على مدخل المدينة، والتي تسعى الى تهدئة الاجواء الغاضبة.
توجد في الخيمة، اضافة الى المظاهرات والاحتجاج، وردية احتجاج دائمة. لافتات كتبت بخط اليد تطلب من بيبي وقف هدم البيوت في الوسط العربي. شباب وشيوخ ونساء وأولاد يجلسون في دوائر ويتحدثون. ايضا نساء من «هشارون» وصلن للاعراب عن تضامنهن. في الاجواء توتر وغضب وخيبة أمل، لكن لا عنف. النشاط الاحتجاجي، بما في ذلك مظاهرة جمعت عشرين ألف شخص قرب المباني المهدومة، مرت بهدوء نسبي. الحجارة لم تتطاير ولم يتم دهس رجال الشرطة، ولم تغلق الشوارع.
«هذا هو الامر الاكثر إحباطا»، قال حسونة مخلوف، أحد سكان قلنسوة، الذي تم هدم بيت أبنائه وشقيقه. «نحن نحتج هنا منذ اسبوع، ولا أحد يهتم، باستثناء الصحافة المحلية العربية. وعندما سفكت الدماء في أم الحيران تذكرونا فجأة. هل هذا ما يريدونه؟ الدم؟ وفجأة وصل الصحافيون الاسرائيليون. أين كنتم حتى الآن؟ لقد مررت بكابوس منذ قيامهم بالهدم. كابوس. حفيدان من أحفادي يلاصقانني من شدة الخوف والصدمة. وفي الليل ايضا يأتون للنوم معي. كيف يصلون في الساعة الخامسة صباحا الى عائلة بشكل مفاجئ ويبدؤون بالهدم والاولاد في الداخل؟ في الصباح التالي فتحت التلفاز وكنت على يقين أنهم سيتحدثون عن الهدم، لكن لا شيء. ولو كلمة واحدة».
كان حسونة رغم الغضب هو الشخص الذي أراد تهدئة الاجواء. في المظاهرة الاولى على مدخل المدينة طلب من السكان عدم اغلاق الشارع وعدم رشق الحجارة. وعندما قام أحد السكان باخراج علم فلسطين، طلب منه حسونة أن ينزله.
في يوم الجمعة الماضي، 13 كانون الثاني، لم ينجح حسونة في ازالة عشرات الاعلام في المظاهرة الكبيرة في قلنسوة. شباب عرب من جميع ارجاء البلاد تدفقوا الى المدينة، بعضهم ساروا حاملين الاعلام وأسمعوا اصواتا عنيفة مثل «بالروح، بالدم، نفديك يا فلسطين». «لم أتمكن من السيطرة على من جاؤوا من الخارج»، قال باعتذار. «لكني اسرائيلي مئة في المئة، مئة في المئة»، قال بانفعال. «أنا أحترم الشرطة والجيش. ودائما عندما كانوا يأتون لغسل سياراتهم عندي، كنت أجري تخفيضات لهم وأحترمهم. وقد عملت سنوات كسائق في ملجأ للمسنين في نتانيا. وكل يوم تطوعت هناك ساعات عمل اضافية».
في طريقنا الى المنازل المهدومة، أظهر لنا حسونة رسالة شكر حصل عليها من ملجأ المسنين «هدار» في نتانيا. «قومي بالتصوير»، قال لي، «قومي بالتصوير، نحن لا نكره اليهود ولا نريد رميهم في البحر، كما يزعم رئيس حكومتكم. لقد قاموا باستدعائي بعد الهدم الى بلدية نتانيا من اجل الاعتذار لي على هدم البيت.
«أقول لاحفادي بأننا سنبني البيوت من جديد، ومن المحظور علينا كراهية جميع اليهود بسبب هدم البيت. ولكن لماذا لا تحترمني الدولة؟ هم يقومون بخنقنا. لي سبعة أولاد بعضهم متزوجون. أين سيسكنون؟ في الهواء؟ لماذا لا يسمحون لنا ببناء المزيد من البيوت في المدينة. (كفار يونا) هنا بجانبنا، وقد تحولت الى مدينة كبيرة، لكنهم يقومون بخنقنا نحن. ماذا يريد الانسان في النهاية؟ العيش وكسب الرزق وتربية الاولاد. ما الذي طلبناه؟».
ضائقة حقيقية
قبل قيام الدولة عاش في قلنسوة 1.500 شخص على مساحة 17 ألف دونم. واليوم يعيش في قلنسوة أكثر من 20 ألف شخص، لكن مساحة المدينة الرسمية هي 8.400 دونم. وثلث سكان المدينة يعيشون خارج خطة البناء المصادق عليها. وفي العام 2000 تم وضع خطة جديدة للبناء من اجل توسيع المدينة، لكن لم تتم المصادقة عليها الى الآن. «عندما قاموا باعداد خطة البناء في العام 2000 فكروا عشرين عاما الى الأمام. وقد مر 17 عاما ولم تتم المصادقة على الخطة»، قال رئيس البلدية عبد الباسط سلامة. «ها أنا أقول لك بعد عشرين سنة بأنك ستجدين سكان قلنسوة في بيتح تكفا ورعنانا. فلن يكون لهم خيار لأنه لا توجد اراض في قلنسوة. توجد هنا اراضي دولة الى جانبنا، فلماذا لا يتم منحها للمدينة من اجل البناء فيها بشكل منظم لأبنائنا؟ البناء غير القانوني هو بسبب الضائقة الحقيقية.
«أشعر أننا نوجد في فترة قبل الانفجار. في الوقت الحالي يتم الاحتجاج بشكل منظم، لكنني أشعر أنه بعد لحظة لن أتمكن من السيطرة على الوضع. سيحدث هنا انفجار. واذا لم يهدأ بيبي واستمر في هدم البيوت فسيحدث انفجار في كل الوسط العربي. لم يسبق لهم أن هدموا 11 بيتا بهذا الشكل. فقد كانوا يهدمون مبنى واحدا أو اثنين على الاكثر، مرة في السنة. وفجأة هدم بهذا الحجم، وبعد ذلك مباشرة هدم في أم الحيران. الوسط العربي على شفا الانفجار».
في صباح الاعلان عن هدم البيوت، قدم سلامة استقالته. «اذا لم أتمكن من الدفاع عن سكان مدينتي، فلا حاجة لأكون رئيس بلدية». هذا ما قاله للسكان اثناء مظاهرة عفوية.
«جئت الى هذه المظاهرة. كنت في حينه اليهودي الوحيد الذي جاء للتضامن»، قال ينيف ساغي، مدير عام مركز المجتمع المشترك في جفعات حبيبة. «لقد التقيت في المظاهرة مع رئيس البلدية، وكان منفعلا الى درجة ذرف الدموع. أين أنتم؟ سألني. لماذا لا يأتي اليهود للتضامن معنا؟ وقلت لرئيس البلدية إنه يجب أن لا يستقيل، لأن الحديث يدور عن قوى أكبر منه، وأنه لا يمكنه، هو أو غيره، الوقوف في وجهها. موضوع البناء غير القانوني في الوسط العربي مشكلة قطرية. منذ قيام الدولة تم بناء 700 حاضرة يهودية ولم تُبنَ أي حاضرة عربية. كيف يمكن الحديث عن تطبيق متساو في القانون اذا كان الواقع العربي في اسرائيل غير متساو أصلا؟ يجب حل هذه المشكلة، لكن نتنياهو لا يريد الحل، بل يريد تأجيج اللهب وصرف الانتباه عن التحقيقات ضده. فمثل عمق التحقيق يكون عمق التحريض ضد الجمهور العربي».
بعد اربعة ايام، تراجع رئيس البلدية عن استقالته، بناء على طلب السكان في المدينة. فالثقة به كبيرة. رئيس البلدية السابق (م.خ) تمت ادانته بتلقي الرشوة. فهو بدل الاهتمام بتطوير المدينة وترتيب وضع آلاف البيوت غير القانونية، اهتم بجمع المال الخاص. وسلامة يحاول تغيير هذا الوضع، وحل مشكلة السكن. لكنه لا ينجح، فليس هناك من يساعده. واسرائيل تجد صعوبة في حل ضائقة السكن في الوسط العربي. وعندما بدأت السلطات بعد تأخر كبير في تطوير البلدات في الوسط العربي ووضع خطط للبناء لم تنجح في الوصول الى الواقع الميداني. فقد كان التخطيط بطيئا جدا قياسا مع البناء السريع. في كثير من المدن تحولت الخطط الى خطط غير ملائمة حتى قبل المصادقة عليها، بعد أن تم بناء بيوت بشكل غير قانوني. وفي مدن كثيرة كانت هناك معارضة للخطط التي تشمل البناء المكتظ بذريعة أنها لا تلائم طريقة البناء الأفقية.
تجدر الاشارة الى أن البناء غير القانوني يتم بشكل كثيف في المدن العربية ايضا التي توجد لديها خطة بناء مصادق عليها. وبالتالي فان الادعاء بأن عدم وجود خطة هو السبب في مخالفات البناء، ليس صحيحا دائما. أحيانا لا تحرك الضائقة من يخالفون البناء، بل التكلفة الرخيصة للبناء غير القانوني، حيث لا تكون ثمة حاجة لدفع الضرائب و»الأرنونا». وفي جميع الحالات، لم تنجح حكومة اسرائيل في تجاوز الامر على مدى سنين، حتى من خلال فرض القانون الذي هو نقطة في بحر قياساً مع عدد المباني الكبير وغير القانوني في الوسط العربي.
هل نحن العدو؟
«بيبي لا يحاول حل مشكلة السكن لدينا. وكل ما يحاول أن يفعله هو التغطية على التحقيق الذي يجري ضده»، قال فادي، أحد سكان قلنسوة، الذي يعمل كهربائيا في مجمع تجاري في نتانيا. «ليته يذهب الى السجن. لقد أوجد طريقة لكسب الشعبية. وهو يحرض الشارع اليهودي ضد العرب. وقد بدأ ذلك بالتحريض في الانتخابات واستمر بعد العملية في تل ابيب وما زال مستمراً الى الآن. اثناء عملية الهدم نشر نتنياهو في صفحته في الفيسبوك: «قواتنا تعمل الآن في قلنسوة»، وما معنى كلمة «قواتنا»؟ هل نحن العدو الذي يجب استخدام القوات ضده؟
«يتحدث نتنياهو عن المساواة في القانون. فهل اقترح علينا أحد ما حلا بديلا مثلما في «عامونا»؟ هل قدم أحد ما التعويض للعائلات في قلنسوة؟ أو تم القاء هذه العائلات الى الشارع في فصل الشتاء؟ قال بيبي عن «عامونا» إنه لا ينام في الليل من اجل ايجاد حل لها. وكم من الليالي لم ينم من اجل قلنسوة؟ هل هذه مساواة؟».
في محيط رئيس الحكومة يقولون إنه ليست هناك صلة بين هدم البيوت وبين التحقيق مع رئيس الحكومة. وقد تحدث رئيس الحكومة عن المساواة في تطبيق القانون قبل بدء التحقيق معه، كما قال المقربون منه. وأكدوا أن قرار تطبيق المساواة في القانون كان مرافقا لقرار الحكومة استثمار 13 مليار شيكل لتقليص الفجوة مع الوسط العربي.
لكن في أم الحيران تم اقتراح ارض بديلة وتعويض العائلات، لكن هذه العائلات رفضت الاقتراح. قلت.
«هذا غير صحيح. لقد تم اجراء مفاوضات مع الحكومة ووافقوا على الاخلاء، وكان ثمة نقاش أين سيسكنون بشكل مؤقت الى حين ايجاد الحل الدائم. وفي منتصف المفاوضات قرر بيبي ارسال الجرافات. ووصل رجال الشرطة وقتلوا استاذاً للرياضيات، هو نائب مدير مدرسة، حيث أراد فقط إبعاد سيارته».
الشرطة تزعم العكس وتقول إنه قام بقتل شرطي، والحكومة تقول إن السكان قاموا بتفجير المفاوضات.
«الشرطة والحكومة تكذبان، وكذلك وسائل الاعلام»، هذا ما قاله فادي والسكان الذين سمعوا المحادثة. «كل من كان هناك يقول – لا (داعش) ولا حذاء. هذه لم تكن عملية. ببساطة قتلوه. لماذا تم دفن الشرطي بهذه السرعة؟ ولو قاموا بتشريع الجثة كانوا سيعرفون أنه لم يُدهس. يحتمل أن اصدقاءه أطلقوا النار عليه. ببساطة يحاولون اخفاء ذلك. لكن تعالي للتحدث عن قلنسوة. ماذا بخصوصنا؟ هنا قاموا باصدار أمر هدم وخلال 48 ساعة جاءت الجرافات. لم يكن هناك نقاش، لم يسمحوا للعائلات بالاستئناف على أمر الهدم في المحكمة، ولم يهتموا بالتعويض أو ايجاد حل سكني للعائلات».
«سأتزوج بعد شهرين»، قال فادي وهو غاضب. «من حسن حظي أنني قمت بالبناء فوق شقة الوالدين. ولكن منذ الاسبوع الماضي وأنا أتساءل لماذا؟ لماذا الزواج؟ أين سيسكن أولادي؟ اليوم يبلغ سعر نصف دونم في خطة البناء في قلنسوة مليون ونصف المليون من الشواكل. وليس هناك اراضٍ، ولهذا الاسعار مرتفعة. ذات مرة اعتبرت نفسي اسرائيليا، والآن أنا لست كذلك. أنا لست اسرائيليا. وأنا أقول لك، عما قريب لن يكون هنا هدوء، سيحدث الانفجار وستحدث كارثة».
بعد التنفيس عن الغضب يتفرق السكان عائدين الى بيوتهم. رافقنا حسونة الى البيت غير الموجود لعائلته. وسيارة عادية لن تتمكن من المرور. قلنسوة القانونية، مع الشوارع والاضاءة تنتهي فجأة، وتبدأ قلنسوة غير القانونية، المصابة. طرق ترابية مع حُفر، آلاف البيوت غير القانونية التي بني بعضها قبل 30 سنة. «ولدتُ في القسم غير القانوني من قلنسوة»، قال حسونة. «وهنا تربى أولادي السبعة. لقد صادروا أراضي جدي وأقاموا تسورين. فلماذا لا يسمحون لنا بالبناء في القليل من الاراضي التي أبقوها لنا؟».
يوجد في الحي 11 بيتا مهدوما. بقايا حجارة وقطع حديد تصرخ الى عنان السماء. ومن الصعب فهم لماذا تم هدم هذه البيوت. على اليسار وعلى اليمين وعلى مدى النظر هناك مئات البيوت غير القانونية. في الساحة الخلفية لدولة اسرائيل الحياة ليست توتاً.
وقد جاء من هيئة السكن التابعة لوزارة المالية أن «الوحدة القطرية لتطبيق التخطيط والبناء تعمل حسب القانون، بالتعاون مع نيابة الدولة، وحسب التوجيهات... مع مراعاة تطبيق القانون بشكل متساو وبدون تمييز».