نشر الناشط الفتحاوي "جمال نزال" صورتين مدمجتين: الأولى خلال الانتفاضة الأولى لملثمين فلسطينيين في أحد شوارع الضفة الغربية، والثانية لشوارع مدينة رام الله بعد قدوم السلطة الوطنية، وهي تبدو نظيفة ومرتبة، وأرفق الصورة بمنشور كتب فيه: "تضحيات هؤلاء الأبطال فتحت الطريق لتأسيس السلطة الوطنية"، وعلى الفور، انتشرت مئات التعليقات المؤيدة والمعارضة (وأكثرها ساخرة)، وعلى الرغم من أن مقارنة الصورتين غير صحيحة من حيث المبدأ؛ إذ إن الأولى تتحدث عن النضال، والثانية تتحدث عن الإنجازات الخدماتية؛ إلا أن الموضوع بحد ذاته مهم، وجدير بالنقاش.
وبعيداً عن المهاترات والمزاودات والانفعالات العاطفية، والمقارنات غير المنطقية، لنقارن بموضوعية الحالة الفلسطينية قبل وبعد السلطة.
وبداية، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار، أن كثيراً من التغيرات في المشهد الفلسطيني، حدثت بفعل عوامل أخرى (غير قدوم السلطة)، منها عوامل خارجية حدثت في الإقليم وفي العالم، وتركت أثراً بالغاً ومباشراً على الوضع الفلسطيني، ومنها عوامل داخلية حدثت بصورة طبيعية، نتيجة التطور الديموغرافي، والذي سينشأ عنه بالضرورة تغيرات على المستويات الاجتماعية والاقتصادية.. وهذه التغيرات كانت ستحدث سواء مع السلطة، أو دونها.
التغير الأهم هنا هو تغير الإستراتيجية الإسرائيلية في إدارتها للصراع، ومصدر أهمية هذا التغير أن أغلب التعليقات كانت بإجراء مقارنات بين وضع العمال الذين كانوا يصلون مدن الداخل بسهولة، واليوم لا يستطيعون ذلك إلا بشق الأنفس.. هذا التغير بدأ تحديداً في العام 1991، عقب انتهاء حرب الخليج الأولى، والتحول الحاصل هو في نظرة إسرائيل تجاه الأراضي المحتلة؛ حيث كانت منذ العام 1967، وحتى ذلك التاريخ تسير باتجاه ضم الأراضي المحتلة بمن فيها من السكان، من خلال عمليات دمج واستيعاب لسكان "المناطق"، تشترط غياب أي هوية سياسية لهم، أو حقوق وطنية، وترفض وتحارب أي وجود لمنظمة التحرير؛ فعملت على روابط القرى، والمخاتير، وتنظيم شبكات واسعة من الجواسيس، وتسهيل دخول العمال والأفراد للمناطق الإسرائيلية.. هذا المخطط الذي رعته الإدارة المدنية كان يسعى لتدجين وتطويع العقل والوعي الفلسطيني، وإيصاله لمرحلة قبول الاحتلال والتعايش معه.
بعد العام 1991، قرأت القيادة الإسرائيلية التغيرات الجذرية في الخارطة السياسية للإقليم، وتغير بنية النظام الدولي، وقيّمت مخططاتها السابقة، وأدركت فشلها في موضوع الضم والتدجين، (خاصة بعد الانتفاضة)، فحولت إستراتيجيتها نحو عزل الأرض المحتلة (ولكن بعد مصادرة أكبر مساحة ممكنة من الأرض)، وعزل التجمعات السكانية وفصلها عن بعضها (للحيلولة دون قيام أي كيان سياسي فلسطيني)، وبالتالي لم تعد بحاجة لتطويع وتدجين السكان، ولم تعد بحاجة للعمال (استقدمت عمالة من الخارج)، ولأول مرة فرضت طوقاً أمنياً، ومنعت دخول أحد للمناطق الإسرائيلية (بدأت هذه التحولات قبل قدوم السلطة).
الموضوع الثاني، والذي لا يقل أهمية؛ تغير الإستراتيجية الفلسطينية في إدارة الصراع، ولا حاجة للقول إن منظمة التحرير وفصائل المقاومة كانت قبل السلطة في حالة مواجهة مباشرة مع إسرائيل، أي في حالة اشتباك عسكري وأمني وسياسي قائمة على العداء والصراع، بعد السلطة تغير الوضع كلياً، وحصل اعتراف متبادل، وتنظيم للعلاقات بين الطرفين بموجب اتفاق أوسلو.. ولأن هذا الموضوع كبير ومعقد سنناقشه لاحقاً، وسنركز في هذا المقال على مقارنة واقع الحياة اليومية بمختلف أوجهها بين المرحلتين.
تعالوا نلق نظرة سريعة على الحالة الفلسطينية أيام الإدارة المدنية:
كانت سلطات الاحتلال تدير المناطق الفلسطينية عبر مديريات التنسيق والارتباط الإقليمية التابعة للإدارة المدنية، والتي هي جزء من "جيش الدفاع"، وجهاز الأمن الإسرائيلي، القطاعات التي حظيت ببعض الاهتمام، وبموازنات هزيلة جداً، هي الصحة والتعليم.. بالنسبة للتعليم؛ كان المنهاج أردنياً أو مصرياً، المدارس بُنيت من قِبَل الحكومة الأردنية قبل الـ67، تعيين المدرسين كان يخضع للاعتبارات الأمنية، وأي مدّرس/ة يحاول قول جملة وطنية لطلابه، كان يُفصل من الخدمة فوراً، وفي آخر سنوات الانتفاضة شهد التعليم تراجعاً خطيراً، وفقد مصداقيته لدى الجامعات العربية والعالمية، وكان الطالب الجامعي يحتاج ضعف عدد السنوات للتخرج بسبب أيام الإضرابات والإغلاقات.. وفي مجال الصحة، لم يكن الوضع أفضل، عدد المستشفيات والعيادات الصحية قليل جداً، الدعم المقدم لها لا يفي بالحاجة، لم تكن آنذاك أي برامج صحية تعني بالفئات الخاصة والأمومة والطفولة والتطعيم والتغذية.. وفي مجالات أخرى كان الوضع أسوأ: الزراعة كانت مجرد إدارة هامشية لا تقدم خدمات حقيقة للمزارعين، وغير معنية بأي تطوير زراعي.. التنمية الصناعية غير موجودة، في كل الضفة الغربية لم يكن سوى عدد محدود جداً من المصانع، لا يوجد إلا بنك أو بنكان وطنيان وبنك عربي (فقط بنوك إسرائيلية)، الشركات تنظم أوراقها من خلال مراقب الشركات الإسرائيلي، وكذلك عمليات الاستيراد والتصدير بكل ما يعني ذلك من تحقيق المتطلبات الإسرائيلية لمنع قيام أي قاعدة لاقتصاد وطني فلسطيني.
لا رقابة صحية على الأسواق، ولا حماية لحقوق المستهلكين، البنية التحتية ضعيفة جداً، والشوارع كانت قد عُبدّت آخر مرة في زمن الانتداب البريطاني، وبعضها في الفترة الأردنية، في كل الضفة الغربية وغزة لم تكن هناك إشارة ضوئية واحدة، أو جسر أو نفق، أو شارع بجزيرة وسطية.. معظم المدن بلا خدمات مجاري، مئات القرى بلا كهرباء ولا شبكات مياه، عشرات القرى والتجمعات السكانية كانت مناطق مهمشة لا تصلها أي خدمات، الحصول على هاتف منزلي يتطلب الانتظار سنوات وموافقات أمنية، وكذلك الحصول على رخصة سواقة، خاصة العمومي، عدد كبير من المهن محتكرة لمن ترضى عنهم الإدارة المدنية، السفر خارجاً كان مقيداً، وأحياناً يتطلب تصاريح من "جواسيس".. الشباب والخريجون (باستثناء أصحاب الأملاك والأغنياء) لم يكن أمامهم سوى السفر، أو العمالة داخل إسرائيل، أو البطالة.. لأن الخدمات المقدمة كانت هزيلة جداً، ولأن إسرائيل لم تكن معنية بأي تطوير أو تنمية للمناطق الفلسطينية، ولأن كل همها هو إخضاع السكان وقمعهم.. لذلك كان عدد الموظفين الذين يديرون الضفة الغربية وقطاع غزة بكل متطلباتها لا يتجاوز بضعة عشرات.. البعض يفاخر بذلك، ويعتبره من علامات العبقرية الإسرائيلية!!
ما الذي تغير بعد قدوم السلطة؟ وما هي الإنجازات التي حققتها في مجال تأمين احتياجات الشعب الفلسطيني اليومية والملحة؟ موضوع المقالة القادمة.