لم يعد هناك شكوك بأن الرئيس الامريكي المنتخب دونلاند ترامب يختلف عن باقي الرؤساء الامريكيين الذين تعهدوا بنقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس و لم ينفذوا وعودهم. الامر مع ترامب مختلف و امكانية ان ينفذ وعده هو احتمال كبير جدا .
كل الظروف مهيئة لذلك، الوضع العربي المأساوي من صراعات و تفكك لدول كبيرة و انشغال دول اخرى في الحفاظ على ذاتها، وضع فلسطيني منقسم على نفسه و مستهلك لمعظم طاقته في معارك و صراعات داخلية، حكومة يمينية في اسرائيل ذاهبة بسرعة البرق في طريق القضاء على حل الدولتين و تحقيق رؤية اليمين الاسرائيلي التاريخية وهو “ارض اسرائيل” الكاملة مقابل حكم ذاتي موسع للفلسطينيين ليس له علاقة في الارض او الحدود او الامن.
تنفيذ ترامب لوعده هو كسر لسياسية امريكية و دولية منذ قرار التقسيم ١٨١عام ١٩٤٧ و الذي نص على ان تبقى القدس و سكانها تحت وضع خاص الى ان يتم تسوية وضعها في المستقبل على ان تبقى القدس تحت الوصاية الدولية.
منذ ذلك الحين و الصراع السياسي و القانوني و الديموغرافي لم يتوقف. منذ ذلك الحين و اسرائيل تحاول تغيير هذا الوضع دون ان تحدث تغيير في موقف المجتمع الدولي و القانون الدولي. و على الرغم من كل ما أتخذت من اجراءات لتغيير وضعها الديموغرافي الا ان الفشل بقي حليفها.
هكذا بعد النكبة عام ١٩٤٨و التي قسمت القدس الى غربية تحت الحكم الاسرائيلي، و شرقية تحت السيادة العربية، وبعد اول انتخابات في اسرائيل و التي اجريت في شهر يناير عام ١٩٤٩كان اول قرارات الحكومة هو تطبيق القانون الاسرائيلي على القدس الغربية و نقل كل المؤسسات الرسمية و الحكومية هناك باستثناء وزارتين ، الاولى وزارة الجيش و برروا ذلك لاسباب امنية و الثانية وزارة الخارجية خوفا من رد الفعل الدولي ، وفقط تم نقل وزارة الخارجية من تل ابيب الى القدس عام ١٩٥٣بعد ان شعرت اسرائيل ان المجتمع الدولي استسلم لامر الواقع .
بعد الاحتلال الاسرائيلي للجزء الشرقي من المدينة عام ١٩٦٧، كانت اول قرارات الحكومة الاسرائيلية بعد انتهاء الحرب هو توسيع مساحة حدود القدس لتصبح عشرة اضعاف حجمها قبل الحرب. من بيت لحم جنوبا حيث اقيم فيما بعد مستوطنة جيلو بهدف فصل القدس عن بقية المدن الفلسطينية من الجنوب الى رام الله شمالا و الخان الاحمر جنوبا و حتى اللطرون غربا لتحاط القدس بسلسلة من الكتل الاستيطانية لعزلها و تهويدها و فرض امر واقع في اي مفاوضات مستقبلية.
لم تنجح كل سياسات التضييق على المواطنين الفلسطينيين و ما يتعرضون له من ظلم ، وعلى الرغم من القوانين العنصرية التي تم تشريعها خصيصا لتغيير الوضع الديموغرافي للمدينة الا ان قرار توسيع القدس قد ساعد في زيادة عدد السكان الفلسطينيين لهذه المدينة المقدسة و ليكون عامل مساعد للحفاظ على الوجود الفلسطيني هناك
على الرغم من ذلك، ورغم البؤر الاستيطانية التي تم انشائها في قلب القدس الشرقية، و نقل وزارة العدل و مقر الشرطة القطرية و تغيير المعالم و بناء شبكة من الطرق تمحي الخطوط بين قدس شرقية و غربية، وفيما بعد اقامة جدار الفصل العنصري الا ان المجتمع الدولي لم يغير موقفه القانوني و السياسي. سفارات الدول جميعها تعمل من تل ابيب و القنصليات التي تتعامل مع الجانب الفلسطيني مكان اقامتها في القدس الشرقية.
على اية حال، اذا ما قرر ترامب تنفيذ وعده حقا في نقل السفارة الامريكية الى القدس سيكون على الادارة الامريكية اعطاء اجابات على العديد من القضايا القانونيه و السياسية، على سبيل المثال:
هل نقل السفارة سيتم فورا ام سيتخذ القرار ويترك التنفيذ للمستقبل؟ و هل هذا يعني اعتراف امريكي بالقدس الغربية فقط ام اعتراف بالسيادة الاسرائيلية على القدس الشرقية ايضا ؟
على الرغم ان مهندسين امريكان بدأوا في فحص الوضع على الارض و الناطق باسم البيت الابيض قال ان موضوع نقل السفارة في مراحله الاولى الا ان بناء سفارة يستغرق سنوات، لذلك قد يتم انتقال السفير الجديد الي بيته الخاص في حي طالبية بدل الاقامة في بيت السفير الامريكي في هرتسيليا كما كان منذ عشرات السنين ، خاصة ان السفير يميني متطرف لا يختلف في آرائه عن اي مستوطن.
وماذا لو اتخذ القرار و قررت الادارة الامريكية تحويل مقر القنصلية الامريكية في القدس التي تم بناءها حديثا وتحويلها الى سفارة و بقاء جزء منها للشؤون القنصلية؟
ثلاث عوامل رئيسية قد تجعل ترامب يتراجع عن موقفه بنقل السفارة او اجراء اي تغيير للموقف الامريكي التقليدي تجاه القدس.
العامل الاول و الاهم هو رد الفعل الفلسطيني المحتمل على هذه الخطوة اذا ما حدثت. اذا ما توصل ترامب من خلال التقارير التي ستوضع على طاولته من تقدير موقف لردود الافعال الفلسطينية، الرسمية و الشعبية، بأن هذه الخطوة ستؤدي الى تغيير قواعد اللعبة و ان الوضع سينفجر و قد تكون انتفاضة ثالثة حقيقية و ان موقف الرئيس العباس و السلطة الفلسطينية و اجهزتها الامنية لن تتصرف كما تصرفت حتى الان .
اذا توصل الي قناعة بأن ما يصدر عن المسؤلين الفلسطينيين ليس مجرد فقاعات في الهواء بل هي تهديدات حقيقة و ان التنسيق الامني لن يبقى مقدس و ان تعهد الرئيس عباس بأنه لن يسمح بأنتفاضه ثالثة طالما هو موجود، هذا التعهد لن يستطيع الايفاء به اذا نفذ ترامب وعده.
اذا ما توصل ترامب وادرته ان هذا ما سيحدث فعلا ، سيأخذ هذا الامر بعين الاعتبار وقد يضطر لتأجيل الامر الى اجل غير مسمى.
العامل الثاني هو موقف عربي ضاغط تقوده مصر بزعامة الرئيس السيسي، يفهم ترامب ان هذه المغامره ستؤدي الى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. الرئيس السيسي يستطيع ان يلعب دور رئيسي في محاولة التأثير على موقف ترامب سيما ان الهدف الرئيسي من سحب مصر لمشروع القرار الذي تم تقديمه الى مجلس الامن الشهر الماضي كان الهدف منه هو اعطاء ترامب فرصه للتعامل بشكل متوازن مع قضايا المنطقة.
العامل الثالث هو الموقف الدولي ، وخاصة الموقف الروسي ، هذا اختبار لمدى علاقة او تأثير الرئيس بوتين على الرئيس ترامب.
في كل الاحوال ، مهما كان ترامب متطرف و مؤيد لاسرائيل ، و تنسجم ادارته الجديدة مع سياسية اليمين الاسرائيلي الا انه سيعمل، كما قال في خطاب تنصيبة، سيعمل فقط وفقا للمصالح الامريكية. اذا ما توصل الى قناعة بأن هذه الخطوة المجنونة لن تخدم المصالح الامريكية، لن يكون هناك سبب في عدم التراجع عن وعوده التي قطعها على نفسه.