منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك الكتلة الشرقية تحوّل النظام الدولي تلقائياً إلى أحادي القطبية، ووجدت الولايات المتحدة نفسها الوريث القابع على قمة هرمه؛ دولة عظمى متفردة، مع ما يمنحها ذلك من مكانة وامتيازات من ناحية، ويكلّفها من مسؤوليات وأعباء، من ناحية أخرى. عديد من منظري العلاقات الدولية تنبأ أن مثل هذا النظام لن يتمكن من الاستقرار، وبالتالي الاستمرار، كونه يفتقد إلى ركائز توازن القوى التي استقرت بسببها المنظومة الدولية في السابق. توقّع هؤلاء أن يكون عهد أحادي القطبية عصيباً، يعاني من متوالية من الاختلالات والاضطرابات الدولية، وبالتالي قصير المدّة الزمنية، التي لن تكون أكثر من فترة انتقالية حتى يستعيد النظام توازنه من جديد، فينتهي عصر الدولة العظمى بالعودة إلى منظومة الدول الكبرى، ثنائية أو متعددة.
بالفعل، وكما تنبأ هؤلاء، كان ربع القرن الماضي شديد الاضطراب على الصعيد الدولي. فوجود دولة عظمى متفرّدة أدى إلى خيلائها الذي ترجم نفسه برغبتها الجامحة لفرض هيمنتها الدولية. وقد أنتج ذلك سعياً حثيثاً لدى الولايات المتحدة للتدخل في الشؤون الدولية، صغيرها وكبيرها، من أجل «ترتيب» العالم وفقاً للرؤية والمصلحة الأميركية. وساعد على هذا التنامي؛ في البداية، عدم وجود كوابح خارجية تعيقه، وذلك جرّاء انهيار الكتلة الشرقية، ما أدى إلى غياب القوة المقابلة لأميركا، فوجدت نفسها حرّة طليقة للتصرف في العالم وفق رغباتها.
وقد تعمّق هذا التدخل لاحقاً، أي بعد أن بدأت دول كبرى، كروسيا والصين، في السعي لإيجاد تموضع جديد لنفسها داخل إطار نظام أحادية القطبية الدولية. فقد تركت هذه الدول، وهذه المرّة عن قصد، لأميركا الاستمرار بـ «قيادة» العالم من أجل إنهاك قواها عن طريق توسيع نطاق تمددها، وللدرجة التي يصبح أصعب عليها الاستجابة الفعّالة لكل التحديات المفروضة عليها دولياً. عندئذ، تبدأ هذه الدولة العظمى بـ «الغرق» التدريجي، فتضعف سيطرتها وتنحسر هيمنتها الدولية، ما يُسهّل حينها مهمة الانقضاض على مكانتها المتفردة، وإنهائها.
بالفعل، انشغلت الولايات المتحدة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بـ «إدارة» شؤون العالم، مطلقةً العنان لعولمة هيمنتها الدولية، عسكرياً واقتصادياً وثقافياً. وأصبحت «اليد» الأميركية ثقيلة الوطأة؛ تحالفات عُقدت، وحروب خيضت، وسياسات اقتصادية اتُبعّت، تم بواسطتها ضمّ البعض، واحتواء البعض الآخر، وإقصاء آخرين. واضطرب العالم، وتخلخلت أسس السياسة الدولية، وتحولت أميركا إلى «شرطي العالم» تمارس سطوتها بقسوة متصاعدة ورعونة متزايدة، من أفغانستان، مروراً بالعراق، وصولاً لسورية.
وعندما انتبهت أميركا لفداحة تأثير سياستها الخاطئة سلباً على مكانتها (بعد وصول أوباما للسلطة)، وبدأت محاولات ترميم علاقاتها الدولية، كان الوقت قد فات عليها. فقد كانت دول كبرى أخرى قد بدأت في حراكها الفعلي لتقويض مكانة التفرد الأميركي.
كانت الصين قد قطعت شوطاً كبيراً في بسط هيمنتها الإقليمية على منطقة «الباسفيك»، محكمةً سيطرتها على بحر الصين الجنوبي ببناء مجموعة من الجزر الصناعية ذات الوظائف العسكرية. هذا ناهيك عن التمدد بواسطة التعاون الاقتصادي إلى دول عديدة في أفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط. يضاف إلى ذلك توسع الاقتصاد الصيني وتصاعد قدرته التنافسية ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأميركي، مع الترشح ليحل مكانه في المستقبل القريب. لقد انطلقت الصين في أتون منافسة الولايات المتحدة على المكانة الدولية. خير دليل على ذلك أن النظام الشيوعي الصيني؛ نظام الحزب الواحد، أصبح الآن المُبشّر (في دافوس) بضرورة استمرار الانفتاح الدولي والمدافع عن العولمة.
من جهة أخرى، ورغم أن اقتصادها لا يقارن بالاقتصادين الأميركي والصيني حتى الآن، إلا أن ذلك لم يمنع روسيا من الدخول في ساحة مواجهة الولايات المتحدة، وبالوسائل العسكرية. فقد اختطت لنفسها مسار التدخلات المباشرة والهادفة لتحجيم مدّ النفوذ الأميركي في مناطق تعتبرها حيوية لضمان أمنها القومي. تدخلت روسيا عسكرياً في جورجيا ووضعت يدها على مناطق منها، وأتبعت ذلك بعد سنوات بتدخلها في أوكرانيا وضم أجزاء منها، وأهمها شبه جزيرة القرم ذات الأهمية الإستراتيجية. وتخوض روسيا حالياً حرباً في سورية لتثبيت وجودها في المنطقة وتأمين قواعدها على «المياه الدافئة». وتحاول روسيا، كذلك، تعزيز علاقاتها في حوض البحر المتوسط، مع مصر والجزائر، وتعمل مع الصين على تعزيز تحالف دول «البركس».
كردّة فعل على اهتزاز مكانة تفردها على قمة هرم أحادية القطبية الدولية من قبل هذه الدول المنافسة، من جهة، ونتيجة مسلسل الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها هي والدول الأوروبية الحليفة التي واجهت موجة هجرة كبيرة إليها في الآونة الأخيرة، من جهة ثانية، انكفأت أميركا على نفسها وانتخبت دونالد ترامب رئيساً. بالنسبة لمنتخبيه، يمثّل ترامب روح القومية الشعبوية الأميركية القائمة على النزعة الحمائية-الهجومية (وليس الانعزالية كما يظن البعض)، والتي ترفع شعار «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً». ما يعنيه هذا الانتخاب، وما يمثّله، أن الأميركان قد دخلوا في أجواء مرحلة صدّ الهجوم الذي يستهدف زعزعة تفرد مكانتهم الدولية، وأنهم سيحاولون من خلال سياسات إدارة ترامب الحفاظ على هذا التفرد.
منذ الآن فصاعداً، سيشهد نظام أحادي القطبية صراعاً متصاعداً لتقويضه وإحلال نظام دولي جديد مكانه. وعلى الأرجح، سيتمحور الصراع القادم بين ثلاث قوى أساسية مركزية: الولايات المتحدة التي ستجتهد للإبقاء على النظام الدولي بصيغته الحالية، كونها المهيمنة عليه، والصين وروسيا التي تريد كل منهما، إن لم يكن الإحلال المتفرد مكان الولايات المتحدة، فالانتقال إلى نظام تعددي جديد يكون لكل منهما دور أساسي فيه.
كان من الممكن أن يكون الاتحاد الأوروبي لاعباً رئيساً في الصراع القائم على تحديد ماهية النظام الدولي المستقبلي، ولكن ما يعانيه من أزمات في الهوية والسياسة والاقتصاد أدت إلى بروز النزعة الشوفينية الشعبوية بين أوساط شعوبه، فتصاعدت نغمة الحمائية-الدفاعية من الهجرة والتخوف من الإرهاب، ما ينذر بإمكانية تفكك هذا الاتحاد، أو على الأقل تدهور مكانته الدولية. وسيكون لخروج بريطانيا منه، واتجاهها للتحالف الأوثق مع أميركا ترامب المعادية له أثر سلبي كبير على هذا الاتحاد، التي ستكون فيه ألمانيا القوة المركزية التي ستكرّس جهدها للحفاظ على استمراريته وفاعليته، ولكن دون التمكن من جعله قوة أساسية منافسة في عملية صناعة النظام الدولي المستقبلي.
عدا القوى المركزية الثلاث التي ستكون في بؤرة الصراع القادم على الصعيد الدولي، سيكون هناك قوى صاعدة لها تأثيرات مهمة، ولكن أقل من تأثير أميركا والصين وروسيا. من هذه الدول اليابان والهند والبرازيل وإيران وجنوب أفريقيا وتركيا. كما سيكون هناك أثر كبير في كيفية وتشكيلة النظام الدولي المستقبلي لفواعلٍ من غير الدول، سيكون في مقدمتها المنظمات الإرهابية التي يُتوقع أن يتفوق أثرها على المنظمات الأهلية غير الحكومية، والمنظمات الدولية.
ستشكل السنوات القليلة القادمة مرحلة مهمة في الصراع الدائر منذ الآن على إعادة تشكيل النظام الدولي. لقد شهد العالم حتى الآن أشكالاً مختلفة لهذا النظام، فكان هناك مرحلة ممتدة من التعددية القطبية استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، تبعها مرحلة ثنائية القطبية التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى ما نمّر به الآن من مرحلة أحادية القطبية. هناك من يقول: إن توازن القوى لا بدّ وأن يعيد النظام إلى تعددي أو ثنائي القطبية، أو حتى أن يصبح لا قطبياً. ولكن المدهش والمثير في آن أن هناك إمكانية قوية لبروز نوع جديد من النظام الدولي، هو الثلاثي القطبية.
إنها أوقات مثيرة التي نمرّ بها حالياً. لنراقب خلال الفترة القادمة تطورات العلاقة بين زوايا المثلث: واشنطن وبكين وموسكو.