في الخامس عشر من هذا الشهر وفي اليوم الذي انعقد فيه مؤتمر باريس للسلام، بدأت حملة إعلانية في إسرائيل تقودها مجموعة كبيرة من الضباط الإسرائيليين السابقين (250 ضابطاً) تحت اسم "ضباط من أجل أمن إسرائيل"، تهدف إلى تخويف الإسرائيليين من استمرار الوضع القائم ومن أفكار ينادي بها التيار اليميني المتطرف الذي يدعو إلى ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل. وهذه الحملة التي ربما يكون هدفها إيجابياً بالحث نحو إنقاذ حل الدولتين اختارت شعارات لتخويف المجتمع الإسرائيلي من الأغلبية الفلسطينية القادمة، فكانت الشعارات التي كتبت بالعربية والعبرية تقول "قريباً سنكون الأغلبية" على لسان الفلسطينيين الذين يظهرون بكثافة في صور تحت العلم الفلسطيني وختم دولة فلسطين. وشملت الإعلانات كذلك عبارات تقول" هذه اللوحات مزعجة لكم؟ هي كذلك بالنسبة لنا"... "هذه اللوحات سوف تختفي خلال أيام ولكن 2.5 مليون فلسطيني في الضفة الغربية لن يختفوا، وهم يعملون على أن يكونوا الأغلبية"... "هل نريد أنتم و نحن الضم؟"... "إذا لم ننفصل عن الفلسطينيين فإن إسرائيل ستكون أقل يهودية وأقل أماناً"... "يجب علينا الانفصال عنهم الآن". وشملت الشعارات كذلك " الأمن أولاً".
لا شك أن مجموعة "ضباط من أجل أمن إسرائيل" تنظر بخطورة لسياسة اليمين التي تريد تعزيز الأمر الواقع الاحتلالي والقضاء على فكرة حل الدولتين بمواصلة الاستيطان وضم مساحات واسعة من الضفة الغربية تمهيداً لضمها كلها، ولكنها في حملتها تلعب لصالح المتطرفين بتركيزها على عقدة الخوف التي نجح اليمين العنصري في تغذيتها وترسيخها في الوعي الإسرائيلي. وهذا اختيار خاطئ لتشجيع الإسرائيليين على تبني خيار حل الدولتين. فعندما يتبنى طرف شعارات عنصرية تجعل مجرد وجود المواطن الفلسطيني خطراً على اليهود، فهو يحرض على الكراهية ضد الفلسطيني وليس فقط في المناطق المحتلة بل وفي إسرائيل أيضاً. وزرع المزيد من الخوف لدى الإسرائيليين يدفعهم إلى أحضان اليمين المتطرف الذي يدعي أنه الأقدر على معالجة الفلسطينيين الذي يمثلون العدو الذي يجب أن يحارب ويقمع بشدة وتنزع منه حقوقه الأساسية والمشروعة.
وقد نجح بنيامين نتنياهو في إثارة خوف الإسرائيليين في الانتخابات الأخيرة عندما قال لهم إن العرب يخرجون للتصويت بكثافة ودعا ناخبيه للخروج للتصويت في مواجهة العرب، وأثار لديهم النزعة العنصرية، ما دفعهم للتصويت له بشكل كبير وساهم في حصول حزبه على أعلى الأصوات.
حملة الضباط السابقين تذكرنا بأخطاء حزب ( العمل) الإسرائيلي عندما قاتل "الليكود" على أصوات من ينتمون إلى مركز الخارطة السياسية واليمين المعتدل بتبني شعارات من قبيل "القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية" ومحاولة التماهي مع مواقف اليمين ومنافسته في حلبته. فكانت النتيجة خسارة قسم مهم من ناخبيه الطبيعيين. وهذا الخطاب تبناه رئيس (المعسكر الصهيوني) اسحق هرتسوغ الذي يذكر المواطنين الإسرائيليين في كل مناسبة أن موقفه لا يختلف كثيراً عن موقف بنيامين نتنياهو الذي يريد أن يعرض على الفلسطينيين دولة ناقصة ليرفضوها وبالتالي يبقى الوضع على حاله.
إسرائيل بنيت على عقدة الخوف واستغلت الحركة الصهيونية ما تعرض له اليهود في أوروبا من اضطهاد وقمع كانت ذروته المحرقة النازية لتعزز لديهم فكرة أنهم ملاحقون وأن الأمم تريد القضاء عليهم، ما خلق لديهم عقدة الاضطهاد وجعلتهم يمارسون القمع والتمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني بحجة أن الفلسطينيين يريدون القضاء على اليهود في إسرائيل، واستغلت الصهيونية بنجاح الشعارات العبثية والغبية التي أطلقها العرب قبل وبعد النكبة والتي يتحدث بعضها عن القضاء على اليهود ورميهم في البحر وما شابه من العبارات غير الواقعية. والمشكلة أنه وبعد أن قدم الشعب الفلسطيني تنازلات تاريخية بقبوله حل الدولتين على أساس حدود العام 1967 بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة إلى جانب دولة إسرائيل وتعيش معها في أمن وحسن جوار، لا تزال أوساط اليمين الصهيوني والتيار الديني- الصهيوني المتطرف تستخدم نفس الخطاب والشعارات واللغة التي اختفت من القاموس الفلسطيني والتي تعزز الخوف اليهودي الإسرائيلي من الفلسطيني، وتنزع الثقة بإمكانية التعايش بسلام بعد قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة في حزيران من العام 1967.
والأنكى هو استخدام بعض من يمكن اعتبارهم بالعقلاء والواقعيين لنفس الخطاب التخويفي للترويج لفكرة التسوية، بدلاً من استخدام خطاب يعزز فكرة السلام والتعايش والمستقبل الأفضل التي تترتب على إنهاء الاحتلال والصراع في هذه المنطقة. أي أن الخطاب يجب أن يكون ايجابياً بالتركيز على المكاسب التي يمكن أن تجنيها إسرائيل من الحل السلمي والتي تتضمن الحفاظ على أمنها واستقرارها في حدود آمنة معترف بها، والآفاق التي يفتحها بتطبيع علاقاتها مع دول المنطقة التي تشمل كل الدول العربية وكذلك مع العالم الإسلامي، وهذا ما تضمنته المبادرة العربية للسلام التي تبنتها قمة بيروت العربية والمؤتمر الإسلامي في طهران.
وإذا أراد الواقعيون في إسرائيل النجاح في دفع الجمهور الإسرائيلي نحو تبني خيار السلام عليهم أن يحددوا قواعد التسوية السياسية بشكل واضح وقاطع وإقناع الرأي العام الإسرائيلي بها. ونحن هنا نتحدث عن المرجعيات الدولية المجمع عليها في الأمم المتحدة وهي تشمل الانسحاب من كامل الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين حسب القرار الدولي 194، والمتضمنة في قرارات مجلس الأمن 242 و334 و1515 والقرار الأخير 2334 وغيرها الكثير من القرارات. هذا هو السبيل لإقناع الإسرائيليين وليس تخويفهم من الفلسطينيين ومن المستقبل معهم وزيادة الكراهية والعنصرية ضدهم.