من أجمل المصادفات التي حصلت معي خلال الشهر الأخير من العام المنصرم، تلك الرسالة التي فاجئتني بها الصديقة "هلا" حين اشارت برسالتها إلى أنها ابتاعت لي ولصديقين آخرين هما سامح خضر وزياد خداش نسخاً من زمن زياد للكاتب الجميل طلال شتوي، وجاء في رسالتها ذلك السؤال الذي يعيد المرء الى قيود الاحتلال حتى في أمر كهذا تعتقد بأنه بسيط كونك لم تفكر فيه من قبل، لكنك سرعان ما تكتشف كم هو صعب، حيث لا بريد ولا وسيلة تحمل تلك المجموعة من بيروت لتحط بها إلى رام الله، كون الاحتلال يفرض شروطه هنا بعدم نقل أي بريد من لبنان إلى أي مدينة فلسطينية، وفي اطار البحث عن وسيلة اهتديت لمحطة الفلسطيني " عَمّان" التي لا تتثاقل ولا تشكو من هذا الفلسطيني الذي لا يجد سواها، محطة سفر وترحال، ومحطة لقاء والتقاء، ومحطة لجوء ونقطة بريد، وبهذا الشكل بدأت رحلة كتاب حط في يدي قبل يومين بعد مشوار طويل في التنقل كان آخرها سؤال موظف الجمارك الفلسطيني على استراحة أريحا والذي ظن في البداية ان العلبة الكرتونية التي بها الكتب الثلاث، هي من صنف دخان المعسل، أو دخان السجائر الذي اعتاد المسافر على حملها نظراً لرخص ثمنها في السوق الأردنية الحرة، فأصر على فتح العلبة ليجد ثلاث كتب موصوفة برسم زياد وموقعة من قبل الكاتب العزيز طلال شتوي، كلٌ باسمه، فخاب ظن موظف الجمارك في القبض على بضع كروزات من السجائر المهربة، وترك الكتب تعبر بسلام، وشاح وجهه بالبؤس بعد أن فشل في الامساك بالسجائر المهربة.
متأخراً في ساعة متأخرة لامست الكتاب وللوهلة الأولى شممته وتفحصت ورقاً يحمل روح لبنان ورائحته العطرة التي أدمن عليها الفلسطيني فكانت هواه الأجمل والأقرب والأطيب في خميس الحب الكبير لما بين يدي من هدية قيّمة وثمينة، تحمل في طياتها فصولاً عن ذلك الزمن الشهي في أُلفة الروح بين لبنان وفلسطين، يوم كان الوقت واحداً والبوصلة في اتجاها صوب فلسطين الحلم والوطن، فلسطين الحقيقة الكاملة التي انصهر لأجلها الدم الفلسطيني باللبناني، وتداخلت كل نواحي الحياة مع بعضها وكان زياد وناجي وميساء وإيفانا وكاتي ومنى وأمل وطارق وطلال وإسكندر ينسجون أملاً في التآخي لولا عصبيات الفرقة والطائفية التي أثار فتيلها بعض الذين شاؤوا ضرب هذا البنيان، ووضع عصي الثأر في دواليب التماسك والتعاضد وبث روح الانتقام والدموية في مسلسل التقسيم والخراب الذي اقامته فئات كانت تعمل لأجل مصالح ضيقة يطغى عليها شبهات لا تزال تلازمها حتى يومنا.
وكما هو الحال مع كل كتاب شهي تبدأ بقراءته، يندفع فيك صوت خفي، يأخذك عن كل ما حولك، ويشغلك في سطوره التي تحملك إلى فصول لم تعشها لكنك تشعر بقربها منك، كأنها جزء منك وكأنك جزءً منها، فيطغى فيها شكل الخاص على العام وتدخل في غمارها مندفعاً دون حذر، وأنت بكامل هدوئك لالتهامها كاملة في جلسة واحدة، في يوم واحد، وفي هدوء الوقت الذي لا يخلو من بعض الخربشات الطارئة التي سرعان ما تنتهي، فتعود أكثر رغبة في مواصلة البحث عما كان، وأنت تجد الناس الذين تعرف بعضهم يسكنون فصولاً ويتربعون على عرش زمن ليس ببعيد، هو ذلك الزمن الذي كان، يوم كانت الحياة أكثر دفئاً بلا رجفة تسكن تفاصيل الوقت في الماضي القريب.
لقد أبدع الكاتب طلال شتوي في وصف قديش كان في ناس، بلغة قريبة من القارئ وبنكهة الكاتب المتألق الذي يجيد رصد الأشياء دون تلكؤ، ودون أي توتير في تسلسل مشاهد وحكايات تؤسس لأصل الصورة بلا قطع أو حواجز تؤدي الى نهايات مجهولة، حكاية الحكاية التي كان ناسها يحاولون أن يصنعوا مستقبلاً غير الذي أصبح عليه الحال فيما بعد، وطلال الذي عاد بنا إلى ذلك الزمان، متنقلاً بين بيروت وضواحيها ومخيماتها، مسافراً إلى كل العواصم القريبة والبعيدة، كان يأخذنا في تتابع قطع الكلام الساحر الذي لم يكن من المصادفة، بل كان ملامساً لدواخلنا بكل ما فيها من المّ وحزن وسهر وليالي خوف وحصار واقتتال، كما كان في الواقع، فالمسافة ذاتها والصورة وإن تغيرت الأزمان لا تزال واحد في شكلها الذي كان يراه كاملاً زياد، بينما عجز بعض الآخرين عن فهمه.
الكاتب الرائع الذي استطاع ان يمسك بأيدينا لنطوف معه في رحلة الماضي، الماضي القريب الذي كان يشهد فيه الناس على خيبات الرحيل والمنافي، وانكسار الوقت في الزمن العربي الذي تعرض للانتكاسة في مرات ومرات، الزمن الذي بدأ يستشعر فيه الناس غربتهم وعزلتهم وسط تنامي قوى الشر وأصوات الفتنة والتطرف بكل ما فيه من ترقب وخوف وشجون، وبكل أسبابه وتداعياته وما التمس من أمر في مسافات الوقت الواقف على عتبة الاقتتال والحرب الداخلية والموت الذي كان تارة بطائرات العدو وأخرى برصاصات الصديق والشقيق، وبإرهاصات الاختلاف والخلاف والانقسامات التي كانت ترصف الطريق لكل صور الموت، وتؤسس لمرحلة تملأها رائحة الكراهية والعنف التي كان زياد يتنبأ بها في وقت سابق، وكان يراها قبل أن تتحقق وتصبح أحداثها أشد قسوة وإفراطاً في القتل.
زمن زياد شاهداً على ما كان من حب بين الناس، يحمل صوراً من الحقيقة كما هي وعلى طبيعتها، والشواهد التي تركها أصحابها لنقرأها، عبرة من الماضي، أو ندماً على ما خسرناه حين كان الناس غير الناس، وحين كانت فلسطين قبلة كل العرب والأحرار من كل العالم ومن مختلف الجنسيات، " إلى فلسطين خذوني"، خذوني إليها حياً يمشي على قدميه، أو شهيداً تحلق روحه الممتلئة بالحب والزيت والزعتر، هكذا كانت تتجمع فصول القومية العربية في محطات كثيرة بين مصر وبيروت ودمشق واربد وبغداد واليمن، وكانوا جميعاً يصرخون بصوتهم وضمائرهم، " إلى فلسطين خذوني"، خذوني ولا تقتلوني بنار الطائفية والعبثية والأفكار المهزومة التي تطلق سمومها علينا، وتنصف الأعداء، فهي مثل بنادق تطلق رصاصاتها إلى الخلف.
أي حب هذا الذي قلته يا طلال، أيها الكاتب الانسان الذي رصد واقعاً مختلفاً كلنا نتوق للعيش فيه، أو قرب ضفافه، فكيف لنا أن نشبع من حواراتك وشهاداتك ولغتك العاشقة لذلك الزمن مثلنا جميعاً، كيف لكتاب واحد أن يشفي حنيننا، وقد أعدت لنا طهارة البداية، بداية المقاومة التي كانت بيروت حضنها وحاضنتها وقبلتها فلسطين، تلك الطهارة التي حملها زياد في قلبه وضميره وظلت رسالته واقفة بلا انكسار، لم تبتلعها الحرب ولم تقتلها شظايا الطائرات وهرطقات الحروب، هو زمن زياد، زمن ناجي العلي وكمال ناصر، زمن البلاد العائدة، الزمن الباحث في ظروف الوقت عن طوق نجاة وبندقية، ذلك الزمن المتشبث بالحقيقة.
الكاتب زاوج شهادته بشهادة آخرين بطريقة ذكيه تجذب القارئ وتجعله يعيش فصول الكتاب دون أن يشعر بالملل، وهو يتنقل بين محطاته بلغة شهية أتقنها طلال شتوي عبر صفحات الكتاب الذي جاء بمستوى جدير أن يسكن المكتبات العربية، لما فيه من قيم تأريخية وإنسانية وإبداعية وشهادات واقعية على حد سواء، ولغة موصوفة بالحب والمعاناة وهو يوثق شهادات مختلفة عن زمن زياد، زمن عاشه لبنان في حقبة زمنية أقل ما يمكن القول عنها بأنها حقبة معقدة.
في فصول الكتاب شواهد كثيرة، أبرزها حالة الحب التي سادت وجمعت الفلسطينيين واللبنانيين قبل أن تتغير الأزمنة وتتداخل مغالطات مفتعلة كادت أن تقتلنا جميعاً، وقبل أن تتدخل السياسة لتمزق حالة الألفة والإخاء والمحبة، وقبل أن تفرض الحزبية والكتائب المشبوهة دماءً سالت لزيادة التصدع في العلاقة المتينة، العلاقة التي تجاوزت محطات المؤامرة وظلت واثقة المعنى والتشبث، متماسكة ورصينة، العلاقة التي حتى في ذروة الأحداث لم تنقطع ولن تنقطع، فهذا الحب الكبير الذي يحمله الكاتب في قلبه لفلسطين وأهلها وناسها، يؤكد صدق الواقع الذي يتجلى في صورة رسمتها أحرف تواقة ومشتاقة للقدس وحاراتها وطرقها التي مشتها يوماً فيروز وغنت فيها قبل أن تغتصب المدينة وتسقط في قبضة المحتل الذي سعى لعزلها وقهرها وتهويدها ولا يزال يحاصرها بكل وسائل المنع وبكل أدوات العزل والظلم، وهذا الغزو الذي ينهش كل شبر في المدينة المقدسة.
هي فلسطين مثل لبنان، سوريا فمصر والعراق، اليمن وتونس والجزائر، الأردن والسعودية والإمارات والكويت، هي فلسطين التي سكنتكم لأنكم تسكنوها وتتربعوا في كل شبر من مساحات أراضيها، من رأس الناقورة، حيفا وعكا ويافا، المجدل واللد وطبريا، رام الله والقدس وحتى النقب، فلسطين التي أحبها زياد وقلب طلال شتوي وقلمه، تحبكم وتشتاق لخطى أقدامكم عليها، على أرضها وبين عشبها، عند صخرة ينبت في أطرافها الزعتر البري كما ينبت هذا الحب بيننا دون أي سقوط في المنتصف.