في كل مرة ترحل إدارة أميركية، وتأتي إدارة جديدة، يواصل الوقت الضائع فعله واشتغاله على التجريب والمجهول من المواقف غير المتبلورة، حيث تكثر تعابير النيات، وتقل دلالات العمل واتجاهاته، وتتلاشى قدرات الإرادة السياسية على تحقيق أو إنجاز ما ينبغي، أو ما تتطلبه معطيات الواقع، فالقضية المزمنة، وأعني بها القضية الفلسطينية، والتي جرى التمهيد لخلقها بوعد وزير الخارجية البريطاني بلفور منذ قرن من الزمان، لم تجد بعد ما يقارب تسوية ممكنة لها، بل إن ما يجري من وقائع استيطانية وصراعية، وأوهام وأحلام ذاتية كابوسية، يعقّد حلولها السياسية التفاوضية، ويؤدي وقد أدى إلى نوع من «الستاتيكو» المعجز والمزعج، لا سيما أن الطرف الإسرائيلي، وهو يجد دعماً أكثر من كافٍ من حلفائه، استمرأ الكثير من المراوغات والمماطلات، حتى غدت التسوية الممكنة قبل سنوات، مستحيلة اليوم في ظل الوضع الحالي للاستيطان، وارتفاع منسوب العنصرية والتطرف، واتساع المسلكيات الفاشية، ليس لدى الجمهور الإسرائيلي المتطرف، بل لدى الحكومة ورئيسها ومعظم وزرائها وقيادات أحزاب يمينية رسمية وغير رسمية، كتنظيمات ما يسمى «دفع الثمن» وأمثالها، وهي تجد من يدافع عنها ويحميها ويساندها في الحكم والحكومة، وفي طليعتهم رئيسها بنيامين نتانياهو وحزبه (الليكود) وأحزاب اليمين المتجددة في إطار الأيديولوجيا العنصرية الصهيونية في طبعتها الأخيرة.
في هذا السياق، يمكن القول إن القرار 2334 الذي صدر بإجماع أعضاء مجلس الأمن الدولي، مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، في الوقت الذي امتنعت فيه عن استخدام الفيتو في كل الحالات، التي كانت تستدعي حماية إسرائيل وأمنها والدفاع عنها وإسنادها، في مواجهة العالم الذي يطالبها بضرورة التوصل إلى حل سياسي تفاوضي مع الفلسطينيين، هذا القرار بدا كأنه كان أول غيث التبدلات الجزئية وليس بالضرورة الإيجابية، في الموقف الدولي، وليس الأميركي فحسب، وقد جاء الخطاب «الوداعي» لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، وإعلانه رؤيته لـ «حل الدولتين» وعملية السلام في المنطقة، ليضيف توضيحات جديدة لمواقف إدارة أوباما، وهي توشك على الرحيل، من دون أن تلزمها تلك المواقف بشيء يمكن تحقيقه، فالإدارة الترامبية هي من سيوضح مواقف الإدارة الجديدة، ليس استناداً إلى مواقف الإدارة القديمة، وكلنا يعرف إن مواقف الإدارات الأميركية لا يمكن معرفتها والاستدلال عليها في فترة زمنية قياسية قصيرة، فكيف إذا كان «الترامبيون» قد أشغلونا بالمواقف المتطرفة لإدارتهم، بدءاً من عشية إعلان نتائج الانتخابات، وكأنهم في عجلة من أمرهم لإعلان دعمهم وإسنادهم ودفاعهم عن إسرائيل ومواقفها الرافضة لـ «حل الدولتين»، بل إن استيطانها المستديم، إنما هدفه قطع الطريق على «حل الدولتين» وإسقاطه من أجندة أي تحرك أو حراك سياسي أو ديبلوماسي للبحث في مستجدات القضية الفلسطينية.
وإذا كان كيري لم يستطع وإدارته أن يفعلا شيئاً ينقذ «حل الدولتين» عبر وقف الاستيطان طوال السنوات التي مضت خلال فترتي إدارة أوباما، فإن إدارة ترامب، التي كما يتوقع الجميع، ستكون الأسوأ في تاريخ الإدارات الأميركية في تعاملها مع القضية الفلسطينية، سوف لن تفعل سوى تعقيد أمر التسوية الممكنة تفاوضياً – إذا حصلت – وسط ظروف التغول اليميني المتطرف لدى الإدارة الأميركية، في تناغمها مع التغول المماثل لدى حكومة يمينية متطرفة يقودها نتانياهو و «ليكوده»، الذي أصبح أكثر فاشية وتطرفاً في أعقاب انتخابات الكنيست الأخيرة.
ولهذا بدا كيري في «رؤيته» وكأنه يضع حكومة نتانياهو أمام خيارين: إما القبول بخيار «حل الدولتين»، أو «إذا أرادت اسرائيل أن تكون دولة واحدة، فعليها أن تكون ديموقراطية، ولا يمكن أن تكون يهودية وديموقراطية في آن واحد». رغم أنه يعرف أن دولة الأيديولوجيا العنصرية التي كانتها إسرائيل منذ البداية، وصارتها أكثر فاشية في ما بعد، ككيان اغتصاب استيطاني، وبدعم من الإدارات الأميركية المتعاقبة، لا يمكن أن تتحول بقدرة أي قوة إلى «دولة ديموقراطية» أو «دولة لكل مواطنيها»، بل ستبقى دولة «ثنائية القومية»، أي دولة «أبارتايد»، مفتوحة على كل احتمالات الصراع واستمراريته وديمومته.
وليس أدل على مثل هذا التوجه من تصريح زعيم حزب «البيت اليهودي»، نفتالي بينيت حليف نتانياهو في الائتلاف الحكومي، من أن خطته المقبلة ستكون فرض القانون الإسرائيلي على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، أي ضم هذه المناطق لتصبح جزءاً من دولة إسرائيل. أي حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة، و «دولة فلسطينية» في غزة، يتصارع الجسد الوطني الفلسطيني كله على حكمها. وذلك في رد واضح وصريح على القائلين بـ «حل الدولتين». وهذا ما قد يجد توافقاً عليه بالتأكيد، بين «الترامبيين الجدد» وهم المعادل الموضوعي لـ «المحافظين الجدد» في زمنهم الذهبي، وبين توراتيي المشروع الصهيوني التهويدي الجديد، ودعاته ورعاته وهم يقفزون على «حل الدولتين» في اتجاه الإبقاء على حل الدولة الواحدة «الثنائية القومية» بسماتها ذات الغلبة العنصرية، وسلخ غزة من الجسد الفلسطيني وجعلها هي «الدولة الفلسطينية» التي يتقاتل الفلسطينيون على حكمها، تماماً كما فعل ويفعل الانقسام السياسي والجغرافي بالوضع الوطني الفلسطيني منذ عقد السنوات العجاف الماضية.
ما يجهد الأميركيون والإسرائيليون للوصول إليه، هو دولة إسرائيلية واحدة، دولة «ابارتايد»، يقع حكم الفلسطينيين الذاتي تحت سيادتها. أما غزة فهي وفق رؤية الوزير الإسرائيلي بينيت ورئيس حكومته، ووزرائه من اليمين المتطرف، فهي «الدولة الفلسطينية»، أو الولاية الفلسطينية، أو أطلقوا عليها ما شئتم من تسميات. المهم إنها توفر حلاً لمعضلة المسألة اليهودية، في جعل فلسطين تقع في غزة فقط، أما إسرائيل التوراتية فهي كل ما بناه المشروع الاحتلالي الصهيوني منذ العام 1948 وحتى الآن، على أرض فلسطين التاريخية، ما يتجاوز مساحة «دولة يهودا والسامرة» التوراتية.
أما المسألة الفلسطينية فستبقى المعلم الرئيس، من معالم صراع مزمن طويل المدى تاريخياً، لم يجد من يسعى الى حله حلاً جذرياً، يعيد الحق إلى أصحابه الشرعيين، من دون لف أو دوران، حتى من داخل الدائرة الفلسطينية والعربية والإقليمية، حيث يحاول البعض امتهان شتى ضروب المخادعة وتزييف الوقائع، للوصول إلى تربيع الدائرة، ومسخ أو تقزيم القضية الوطنية للشعب الفلسطيني إلى مجرد سلطة، والقبول برموز لا قيمة لها في تاريخ الشعوب والأمم، من دون تجسيد سيادتها الوطنية على الأرض، والموافقة على تسويات مجحفة، مستحيلة في الأساس، لكنها تصير «ممكنة» بفعل ما وصلت إليه أحوال قيادة لا تقود، ومقاومة لا تقاوم، وممانعة لم يعد في مقدورها أن تمانع، أو تمنع العدو من المضي في العيش بسلام، في ظل الإحلال التهويدي والاحتلال الاستيطاني والعسكري.
هكذا في مواجهة تطرفين لا يعاندان واحدهما الآخر: شعبوية «ترامبية» الحنين إلى ماضٍ مختلف، و «ليكودية» الماضي التوراتي، لن تجد التسوية التفاوضية التي يحلم أو يتوهم البعض الفلسطيني والعربي بتحقيقها، مكاناً لها في أجندات القوى المؤثرة والفاعلة في العالم، السائر اليوم كما في نومه، نحو المجهول والمخفي والمبهم، في ظل سيادة «نهج داعشي» يمارسه أكثر من طرف، سماته الأساس مسلكيات التوحش، و «الذئاب المنفردة»، والعنف والإرهاب غير المتوقع.
عن الحياة اللندنية