بين الواقعية السحرية والواقعية التاريخية، يكتب الروائي الفلسطيني "يحيى يخلف" روايته الأخيرة (راكب الريح)، والتي فازت بجائزة كتارا الأخيرة للرواية العربية، لكن "يخلف" غاب طويلاً عن كتابة الرواية منذ الثماننينات، ومن الواضح أن انخراطه في العمل السياسي، (كان رئيس المجلس الأعلى للتربية والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، ثم وزيراً للثقافة)، وإخلاصه للراحل ياسر عرفات، أبعده قليلاً عن عالم الكتابة، رغم أن رواياته السابقة بدءاً من "نجران تحت الصفر" عام 1977و"تلك المرأة الوردة" 1980 و"تفاح المجانين" 1982، شكلت علامات فارقة في الرواية الفلسطينية، ولكنه لم يُصدرْ منذ تلك الأعمال حتى، "راكب الريح" عام 2015 سوى "بحيرة وراء الريح" عام 1993م، والتي تتناول الأيام الأخيرة لجيش الإنقاذ في فلسطين.
ما يقارب الثلاثين عاماً، ظلَّ هاجس الكتابة، لدى "يخلف" حاضراً، حتى أتيح له في السنوات القليلة الأخيرة، أن يتفرغ للكتابة نوعاً ما، فأنقذ نفسه من مصير بعض الأدباء الفلسطينيين الذين أخذهم العمل السياسي، من عالم الأدب، مثل حكم بلعاوي ماجد أبو شرار كمال ناصر وغيرهم، لكن "يخلف" قاوم إغراء السياسية وانشغالاتها اليومية، بشعف الكتابة.
تجيء "راكب الريح" مختلفة قليلاً، عن قصص "يخلف" ورواياته السابقة، حيث تبدو الخبرة والنضوح والحكمة قد غيَّرت الروائي، ومنحته طاقة كبيرة على الهدوء والتأمل، وأول علامات الحكمة، ابتعاده عن تناول الواقع الفلسطيني المشروخ حالياً، وعن النتائج الهزيلة التي آل إليها اتفاق أوسلو المرذول، والانقسام الفلسطني الحاد، والفساد السياسي والاجتماعي والخراب العميق الذي ضرب البنية الاجتماعية الفلسطينية، والخيبات السياسية المتتالية منذ إجهاض الإنتفاضة الأولى، وخطأ تقدير الثانية، وإفشال المسار السياسي كاملاً، وما تبع ذلك من خلافات حول إدارة القرار السياسي الفلسيطني، والصراع على خلافة عرفات، ثم وفاته، وتردي شكل ونواة الكيان السياسي الفلسطيني.
اختار "يحيى يخلف" موضوعاً بعيداً عن كل ذلك، حيث قاده حذره السياسي للرجوع إلى الماضي، فذهب إلى التاريخ، وأحضر أجواء ألف ليلة وليلة، وصنع بطله على طريقة السندباد البحري أو علاء الدين والأمير حسين وعلي شار وبدر البدور، واختار له اسم "يوسف" لما يتمتع به من سحر وجاذبية وقوة، (كان يوسف وسيماً بهيَّ الطلعة يمتلك عينيّ صقر، وحاجبين مروسومين كأنهما خُطّا بقلم وجبيناً كالفضة، وشعراً كستنائياً وأنفاً مستقيماً، وفماً دقيقاً ويبدو بقفطانه الأبيض، ووشاحه الأخضر، وكأنه أمير من أمراء الإستانة، بل إن النّساء كن يشبهن جمالَ خلقته بجمال النبي يوسف).
يوسف هذا هو موضوع الرواية وبطلها، وهو (فتى حيوي، طموح، أحبَّ الرسمَ والبحرَ، وأحب يافا، وأحب القفز من الأعالي إلى أحضان الموج الصاخبة)، وهو يتحلى بصفات خيالية، فهو يحمل قريناً، يمنحه قوة غريبة وقت الحب والحرب، تصل إلى درجة أن شفتيه تتحولان إلى قبلة نارية، تلفح جيد الفتاة الوحيدة التي قبلها، فهو يركب الريح، ويطير بحصانه إلى أماكن بعيدة، بل إنه فنان يتقن الرسم، فقد رسم لوحة للسيدة العيطموس التي كانت معشوقة أمير البحر العثماني جركس باشا، الذي أسكنها قصراً في يافا.
تجلت لعبة السرد لدى "يخلف" من تكثيف الجمل، وتكثيف الحوارات، والكتابة بانضباط واعتدال، ورشاقة في استخدام اللغة، باقتصادٍ مَكَّنه من رسم الأحداث والشخصيات بمهارة السارد العارف، الذي ينبش في تلك الوقائع التاريخية خدمة للعالم الروائي الذي خطط له بدقة، هنا تكمن اللعبة بين الواقيعة السحرية والواقعية التاريخية، اللتين يمزجهما بطريقة ماهرة، فهو لا يترك الأحداث تجري بشكل خيالي بحت، على نمط ألف ليلة وليلة، بل سرعان ما يعود ويقبض لجام السرد، ويحرف حصانه نحو الغرض المقصود.
وصفت الرواية بداية الأحداث التي عصفت بيافا، قبل قرنين من الزمن، والتي جسدت الصراع والخراب داخل الامبراطوروية العثمانية، والذي تجلى في سيطرة الانكشاريين على مقاليد السلطة، ومن ضمنها مدينة يافا، وعدم التزامهم بقرار الوالي العثماني، وتمردهم حتى على السلطان نفسه، فهم قوة غاشمة مستبدة، لم يتمكن يوسف الذي يواجههم بشجاعة، وبمساعدة قرينه القويّ من ردعهم، ويشترطون لوقف الاعتداءات نفي يوسف عن يافا، فيتم إرساله وبمساعدة العيطموس إلى الشام ليدرس فيها، وهنا تقع معه حوادث كثيرة، بعضها واقعي، وبعضها فانتازي، لكنه يتعرف في الشام على تاجرين هنديين، يقودانه إلى حكيم في الأناضول، ينجز كتاباً هاماً، عن الحكمة، وتكون مهمة يوسف كتابة المخطوط بخطه الجميل، ويتم ترتيب وفد من حكماء الشرق لمقابلة نابليون وتسليمه الهدية، وهي كتاب الحكمة، الملفوف بعناية في صندوق جميل، في سعي لمحاولة أقامة تفاهم بين الشرق والغرب، لكن الوفد يصل بعد أن يكون نابليون قد هُزم على أبواب عكا، وتفشي الطاعون في جيشه، وفي طريق عودته إلى مصر، يقتل رجال يافا وشبابها بطريقة متوحشة، ويدمر المدينة الجميلة، ويحيلها إلى حرائق وخراب.
وحال عودة يوسف مع وفد الحكماء يرى كيف دمرت مدينته، ويعرف كيف ماتت أمه وأبوه، وكيف مرضت وتبدلت محبوبته "العيطموس"، والتي أحبها، وبادلته هي الحب، ويقوم بوداعها قبل أن ترحل نهائياً..
ولكن هل الرواية التاريخية، مجرد ماضٍ، أو أنها كما يقول جورج لوكاتش "تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق للذات"، بالطبع إنها تروي ذاك الماضي، الذي يشير تماماً إلى الحاضر، وإلى النكبة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وكأن ما حدث لمدينة يافا قبل مئتي عام وأكثر، من احتلال همجي فاشي بربري، يحدث اليوم للمدن الفلسطينية، لكن نهاية الظلم لن تطول، حتى لو استوطن وخرب وهوَّد ما شاء له التهويد.
لا بل تشير الرواية إلى عمق الصراع بين الشرق والغرب، وتطرحُ رؤيا جديدةً، وهي إمكانية إقامة حوار وتفاهم، أساسه الحكمة والسلام، وقبول الآخر المختلف، وكأنه يتنبأ، بأن رسالة الحكيم التركي النابعة من الشرق، قد تصل الغرب يوماً، ويحدث (تفاهم) ما، قد ينهي سنوات الصراع الطويلة.
يقول الحكيم في ختام الرواية ليوسف: (يا بني علينا أن نخاطب الغرب الذي يقسم العالم إلى شرق وغرب، وقد يقسم العالم إلى شمال وجنوب، وقد يعتبر نفسه المركز، وشعوب العالم هم الأطراف، علينا أن نحاورهم ونتخاطب معهم، بلغة الحكمة، لعلنا نلتقي عند منتصف الطريق.
يا بني الطغاة يموتون، لكن الحكمة لا تموت.)
كأنه يرد على مقولة كيبلنغ (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا)، أو على صمويل هيننغتون في نظريته عن الصراع الثقافي بين الحضارات بعد الحرب الباردة، لا بل إن نبوءة ذلك العراف الذي تنبأ للشقيقتين الفرنسيتين بأنهما ستحكمان العالم، وكانت الأولى هي إيمي التي خطفها القراصنة، وصارت السلطانة نخشديل زوجة السلطان عبدالحميد الأول، والثانية ماري روز والتي كانت تائهة تعاقر الخمرة، وكادت نبوءة العراف تفشل، حتى يجيء ضابط فرنسي، اسمه (نابليون بونابرت)، فيتلتقطها ويتزوج بها، ويبدل اسمها إلى جوزفين، ولا يخفى مغزى النبوءة السياسي والتاريخي والحضاري.
رواية مكتوبة بعناية وبلغة سلسلة، تحمل قدراً من المتعة والتشويق، وتقود قارئها إلى عالم يشبه الأساطير والحكايات الخرافية، لكنها لا تبعده عن واقعه السياسي والاجتماعي والمعيش، تذهب للماضي بسطوة الحاضر، لا تدغدغ خيال القارئ وتحتال عليه، بل تعطيه جرعات الألم والحزن والخيبة بطريقة ذكية، وليست فجة أو مباشرة.