مؤامرات شيطانية

عبد الغني سلامة
حجم الخط

في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، اندلعت في العديد من مناطق العالم ثورات شعبية عارمة، انطلقت ضد الهيمنة الاستعمارية، واستطاعت تحقيق انتصارات مهمة وتاريخية؛ فمثلا، نالت الهند استقلالها سنة 1947، ثم الصين بعدها بسنتين، ثم انتصر الفيتناميون على فرنسا (1954)، وفي نفس العام اندلعت في الجزائر حرب التحرير الشعبية (1954 - 1962)، وبعدها أطاحت الثورة الكوبية بنظام "باتيستا" (1959)، وفي إفريقيا أخذ الاستعمار ينكشف عن مناطق عديدة، وبدأت الدول تنال استقلالها، بما فيها معظم الدول العربية.
من جهة ثانية، كانت المنظومة الاشتراكية قد امتدت بنفوذها لتغطي نحو ثلثي الأرض، وكان النظام الدولي الجديد قد تشكل على أساس التوازن النسبي بين القوتين العظميين (الأميركان والسوفييت)، والحرب الباردة بينهما، والتي نشأ عنها عشرات الحروب بالوكالة بين حلفائهما في العالم الثالث.
وفي الوقت الذي كانت شعوب العالم الثالث تناضل للتحرر، وتحقق إنجازات مهمة، كانت الدول الكبرى تحاربها بلا هوادة، تارة بالقمع المباشر، وتارة بالمؤامرات. وإليكم بعض الأمثلة:
أولى المؤامرات كانت على الهند، فعشية استقلالها بيومٍ واحد فوجئ "المهاتما غاندي" برفيق دربه "محمد علي جناح" يعلن انسلاخ الباكستان عن الهند واستقلالها، بحجة أن استقلال الهند يضر بمصالح المسلمين، طبعا مقدمات هذا الانفصال كانت قد بدأت قبل ذلك بفترة، بدعم وتخطيط من بريطانيا، لتفتيت الهند إلى خمس دول.
وقد نجم عن التقسيم حروب أهلية عنيفة قُتل فيها الآلاف.
المؤامرة الثانية كانت على الصين، فما أن انتصرت الثورة الشعبية بزعامة "ماو" حتى انسحب إلى تايوان جزءٌ من الجيش الصينى بقيادة الجنرال «تشانج كاي تشيك» العام (1950)، وحينها فرضت أميركا على القوات اليابانية التي كانت تحتل تايوان تسليم الجزيرة للكومنتاج (جماعة كاي تشيك) وليس لقوات الشيوعيين، بل واعترفت بتايوان بكونها تمثل الصين في الأمم المتحدة.
في إيران، قام الزعيم الوطني "محمد مصدق" بتأميم شركات النفط البريطانية، عندما صار رئيسا للوزراء في الفترة (1951 - 1953)، ونجح في خلع الشاه، بيد أن المخابرات الأميركية والبريطانية وبوساطة عميلين للاستخبارات وبموازنة متواضعة بلغت 800 ألف دولار، تمكنت من إسقاط حكومته وإعادة تنصيب الشاه في عملية استخباراتية أُطلق عليها "أجاكس".
أميركا اللاتينية كانت مسرحاً لعمليات استخباراتية معقدة، إذ اعتبرتها أميركا الحديقة الخلفية للبيت الأبيض، ومن أجل فرض هيمنتها عليها روجت لعقيدة "الأمن القومي"، زاعمةً أن القارة تتعرض للخطر الشيوعي، فدعمت كل الأنظمة القمعية والفاسدة بهذه الحجة، الأرجنتين مثلا، في منتصف السبعينيات كانت تخوض كفاحا اجتماعيا ضد المافيات الاقتصادية وضد الاستغلال، فبدأت المخابرات الأميركية بدعم القطاع الصناعي وبعض الجنرالات الفاسدين لتركيز الثروة والسلطة بأيديهم، وأخذت تصفّي المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتتآمر على النقابات العمالية، ودعمت الجنرال "خورخي فيديلا" في انقلابه الوحشي العام (1976)، في ظل صمت متواطئ من الطبقة السياسية والمجموعات الاقتصادية والأليغارشية، وخلال سنوات الديكتاتورية تضاعفت الديون على البلاد حتى وصلت إلى 160 مليارا.
واضطرت الأرجنتين لتسديد 200 مليار دولار أي زهاء 25 ضعف مبلغ ديونها الأساسي.
في تلك الحقبة المظلمة قُتل وخُطف نحو 30 ألف أرجنتيني وأكثرهم نساء وأطفال، الأطفال المخطوفون تربوا في معسكرات خاصة ليتحولوا إلى جنود موالين، وآلاف النساء المختطفات تعرضن للاغتصاب والحمل القسري لتربية جنود موالين للنظام.
كما كان يُلقى بالمناضلين بعد إخضاعهم للتعذيب من الطائرات في النهر حتى لا يُعثر على جثثهم.
في تشيلي، انتخب الشعب الزعيم الاشتراكي، المنحاز للفقراء، "سلفادور أليندي" العام 1970، ما أثار قلق أميركا، خاصة وأنه تبنى سياسات وطنية مناوئة لها، فدعمت ضده الجنرال "خوسيه بينوشيه" في انقلابه الدموي، الذي أدخل البلاد 17 عاماً من الحكم العسكري والقمع والفساد (1973 - 1990).
ونفس الصورة تكررت في بنما، حيث اغتيل الجنرال "عمر توريخوس" الزعيم البنمي الذي كان عائقاً في وجه الهيمنة الأميركية على القناة، وتم تنصيب "مانويل نورييغا" حاكما بديلاً (1983 - 1990). والذي كان مع "بينوشيه" و"رافائيل ليونداس" رئيس الدومينيكان، أسوأ وجوه الديكتاتورية الموالية لأميركا.
في نيكاراغوا، تمكنت "فيوليتا تشامورو" المنحدرة من عائلة برجوازية من هزيمة الرئيس الشعبي "أورتيجا" في الانتخابات الرئاسية العام (1990)، وقد مثلت "تشامورو" الاتحاد الوطني للمعارضة المدعوم من الولايات المتحدة، وهو ائتلاف لأحزاب مناهضة لجبهة "الساندينيستا" الوطنية، التي أسسها "ساندينو" بطل المقاومة النيكاراغويانية ضد الاحتلال الأميركي (1927 - 1933)، وهي الجبهة التي حررت البلاد من دكتاتورية "سوموزا" العام (1979).
وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت في نيكاراغوا بخلق نظام موالٍ لها عن طريق الانتخابات (أي عن طريق دعم جماعتها بطرق ملتوية)، إلا أنها فشلت في مسعاها في الانقلاب على الرئيس الفنزويلي "شافيز" العام 2002، والذي نفذه بعض الأوساط العسكرية والمالية والنقابية بمباركة الكنيسة، وبدعم وتوجيه من المخابرات الأميركية، حيث أفشلت المظاهرات الشعبية الانقلاب‏.
إفريقيا شهدت العديد من المؤامرات، أبرزها اغتيال الزعيم الوطني الكونغولي "باتريس لومومبا"؛ مؤسس الحركة الوطنية لمقاومة الاستعمار البلجيكي والذي كان يحظى بشعبية واسعة، مكنته من الفوز في انتخابات 1960، وحينها، حاولت بلجيكا التي كانت تحتل البلاد إخفاء النتائج وإسناد الحكم إلى حليفها "جوزيف إليو"، لكن الضغط الشعبي أجبرها على تكليف "لومومبا" بتشكيل الحكومة.
وفي حفل التنصيب ألقى ملك بلجيكا "بودوان" خطابا استعلائيا أهان فيه شعب الكونغو، فرد عليه "لومومبا" بخطاب رد فيه الإهانة للملك (سمي خطاب "الدموع والدم والنار")، ما أغضب البلجيكيين.
وبعد أسبوعين، أدخلت بلجيكا البلاد في سلسلة من الأزمات لم تتوقف حتى اليوم.
حينها وجدت حكومة "لومومبا" نفسها تواجه أزمات كبرى: اضطرابات عمالية، تمردا عسكريا في الجيش، وانفصال إقليم كتانغا أهم وأغنى إقليم في الكونغو. استغل "موبوتو" رئيس هيئة الأركان هذه الفوضى فاستولى على السلطة العام 1961 في انقلاب عسكري هو الأول من نوعه في أفريقيا في ذلك الوقت. واختطف "لومومبا"، لتقوم فرقة من الجيش البلجيكي بقتله وتقطيعه وإذابته في حمض الكبريتيك.
كل تلك المؤامرات، وغيرها لم تكن لتنجح لولا الثورات المضادة، ولولا وجود جماعات محلية مناوئة (قوى طائفية وقبلية واقتصادية) كان يتم الاستقواء بها ضد شعوبها وقواها الوطنية، لخدمة أعداء الوطن.